آراء حرة

10:03 صباحًا EET

ناصر بن تركي يكتب: دعوة لإحياء المذهب العقلاني القديم – المعتزلة‎

تمهيد

بدأ التأسيس للفكر العقلاني في العهد الأموي على يد مفكرين مثل الجعد بن درهم والجهم بن صفوان وغيلان الدمشقي وبعد انتشار هذه الأفكار تلقفها شخصيات بارزة أمثال: واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وأبي الهذيل العلاف ومعمر بن عباد وإبراهيم النظام وكانوا هم المؤسسين الحقيقين لمذهب المعتزلة وقد اعتمد المعتزلة على العقل في تأسيس عقائدهم وقدموه على النقل وقالوا بأن العقل والفطرة السليمة قادران على تمييز الحلال من الحرام بشكل تلقائي كما قللوا من قيمة الروايات المنسوبة للنبي ولم يستشهدوا بها في مصنفاتهم إلا في حدود ضيقة بسبب انتشار الكذب فيها.

تسميتهم بالمعتزلة ؟

يقال أن تسميتهم جاءت بعد اعتزال واصل بن عطاء (80 هـ – 131 هـ)
مجلس شيخه الحسن البصري في الحكم على “مرتكب الكبيرة”
يقول الشهرستاني: “ودخل رجل على الحسن البصري، فقال: يا إمام الدين: لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة وهم وعيدية الخوارج وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان بل العمل على مذهبهم ليس ركنا من الإيمان فلا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة وهم مرجئة الأمة فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقادا؟ فتفكر الحسن في ذلك وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول أن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقا ولا كافر مطلقا بل هو في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر ثم قام واعتزل إلى أسطوانة من اسطوانات المسجد يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزلنا واصل، فسمي هو وأصحابه المعتزلة.

الأصول الخمسة لعقيدة المعتزلة:

التوحيد: ويقصدون به إثبات وحدانية الله ونفي المثل عنه، ويقولون أن صفاته هي عين ذاته فهو عالم بذاته قادر بذاته لا بصفات زائدة عن الذات.
العدل: يقصدون به أن الإنسان خالق أفعاله و أن الله ليس له فيها صنع وإنما أقدرهم عليها فقط، ولذلك كان التكليف.
المنزلة بين المنزلتين: يعتقد المعتزلة أن مرتكب الكبيرة في الدنيا لا يسمى مؤمناً ولا يسمى كافراً بل هو في منزلة بين هاتين المنزلتين فإن تاب رجع إلى إيمانه وإن مات مُصراً على فسقه كان من المخلدين في عذاب جهنم.
الوعد والوعيد: ويقصدون به إنفاذ الوعد بالجنة للصالحين، والوعيد بالنار لأصحاب الكبائر وأن الله لا يقبل فيهم شفاعة ولايخرج أحدا منهم من النار فهم فيها خالدون.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: يوجبون الخروج على الأئمة إذا ارتكبوا الكبائر ولو لم يكن كفراً وهذا الأصل عندهم من فروض الكفاية.

خلق القرآن

خلق القرآن من القضايا الفكرية الشائكة التي تم استغلالها للطعن في عقيدة المعتزلة وتكفيرهم ولكي نفهم المغزى الحقيقي لفكرة خلق القرآن علينا أن نغوص في عقول فقهاء المعتزلة لنفهم هذا الطرح الجريء قبل أن نرميهم بالكفر والزندقة كما فعل أهل الحديث، أولاَ لقد طرح المعتزلة فكرة خلق القرآن لهدف نبيل وهو إثبات حرية الإنسان في اختيار أفعاله وكان السبب هو تبني الدولة الأموية لعقيدة الجبر والتي تقول أن الله قد كتب على الناس أفعالهم قبل خلقهم وأنه في علم الله الأزلي قد كتب أن بني أمية سيحكمون وكل من يعارض هذا فقد كفر بالقضاء والقدر، هذا التوجه المخالف للقرآن دفع المعتزلة للقول أن القرآن مُحدث “مخلوق” لكي يبرروا آيات تلازم فيها الحدث مع التنزيل كآيات سورة “عبس” حيث قالوا أن العبوس لم يكن مكتوب منذ الأزل بينما قال الفريق الآخر أنه مكتوب، ولا شك أن الأرضية المعرفية لم تخدم المعتزلة في ذلك الوقت لإثبات وجهة نظرهم.

عبقرية المعتزلة

تتجلى عبقرية المعتزلة في تركيزهم على شيئين أساسيين:

حرية الإنسان في الاختيار.

وتقديسهم للعقل.

وللمعتزلة أطروحات تقدمية سبقوا بها عصرهم من أهمها إنكارهم شفاعة النبي لأهل الكبائر من أمته، وإنكارهم كرامات الأولياء وقالوا لو ثبتت كرامات الأولياء ل اشتبه الولي بالنبي، ونتيجة لإمعان العقل كان الإمام عبد الرحمن بن كيسان المعتزلي يقول أن دية المرأة كدية الرجل وأن نكاح الصغيرة لا يجوز
وكان الإمام ثمامة المعتزلي لا يجيز السبي ويستشهد بالآية الكريمة
” فإما منا بعد وإما فداء”
أي أن تمن عليهم بإطلاق سراحهم بدون مقابل أو أن تفديهم بأسرى،
كما اتّفقوا على نفي رؤية الله بالأبصار في الجنة ونفي التشبيه عنه من كلّ وجه و أوجبوا تأويل الآيات المتشابهة وقالوا أن كلمة “ناظرة” من الانتظار وليس من النظر.
“وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة”
وقد أنكر أبو مسلم الأصفهاني النسخ في آيات القرآن، وأنكر أبو إسحاق النظام الرجم وقال إن الآيات صريحة بالجلد للزاني والزانية وان الرجم في شريعة اليهود وليس في شريعتنا، وأبو إسحاق النظام هو أستاذ الجاحظ وأحد أكابر المعتزلة وكان يؤسس لأمرين هما الشكّ والتجربة يقول الجاحظ واصفاً أبو إسحاق النظام
“الأوائل يقولون في كل ألف سنة رجل لا نظير له، فإن كان ذلك صحيحاً فهو أبو إسحاق النظّام”
يقول النظام: “الشاك أقرب إليك من الجاحد ولم يكن يقين قط حتى كان قبله شك ولم ينتقل أحد عن اعتقاد إلى اعتقاد غيره حتى يكون بينهما حال الشك”
ويقول “إن الإجماع ليس بحجة في الشرع وكذلك القياس في الأحكام الشرعية لا يجوز أن يكون حجة”
وكان لأبي إسحاق النظّام أفكار رائدة سبق بها لافوازيه في حفظ المادة، وسبق ديكارت في مدرسة الشك وسبق جاك روسو بالقول بالعقد الاجتماعي،
يقول النظام عن المادة “أن نار المصباح لم تأكل شيئا من الدهن ولم تشربه وإن النار لا تأكل ولا تشرب ولكن الدهن ينقص على قدر مايخرج منه من الدخان والنار الكامنين”
وقال عن الغلاف الجوي “لأمر ما حُصر الهواء في جوف هذا الفلك ولابد لكل محصور من أن يكون تقلبه وضغطه على قدر الحصار وكذلك الماء إذا اختنق”
وقال عن دورة الماء “ثم تعود تلك الأمواهُ سيولا تطلب الحدور وتطلب القرار وتجري في أعماق الأرض حتى تصير إلى ذلك الهواء فليس يضيع من الماء شيء”
وقال عن الإمامة ” عند المعتزلة أنها العقد والاختيار”.

يقول المفكر الألماني ماكس هورتن “النظام أعظم مفكري زمانه تأثيرا بين أهل الإسلام وهو في الوقت نفسه أول من يمثل الأفكار اليونانية تمثيلا واضحا”.

السلطة والمعتزلة

بدأ ارتباط المعتزلة بالسلطة العباسية بسبب تعاملهم الإيجابي مع الفكر البشري خاصة الفلسفة اليونانية وحدث هذا عندما نشطت الترجمة في عهد ابو جعفر المنصور، وبلغ هذا الارتباط ذروته في عهد المأمون 188 – 218 هجري، حينها أصبح الإعتزال المذهب الرسمي للدولة العباسية واستمر في عهد المعتصم بالله و ابنه هارون “الواثق بالله” وبعد وفاة الواثق بالله في سنة 232 هجري حدث الانفصال بين المعتزلة والسلطة بعد مبايعة المتوكل بالله الذي كان شافعي المذهب، وقد أظهر الميل إلى أهل الحديث وعزل رجال المعتزلة من مناصب الدولة وكتب بذلك إلى الأمصار، ومن جرائم المتوكل قتله للعالم الجليل ابن السكيت، يقول السيوطي في تاريخ الخلفاء” أن المتوكل ألزم ابن السكيت بتعليم ابنيه المعتز والمؤيد، فسأله (أي المتوكل) ذات يوم: أيّهما أحبّ إليك ابناي هذان: المعتز والمؤيّد، أو الحسن والحسين؟ فقال ابن السكيت: والله إن قنبرًا خادم علي بن أبي طالب خير منك ومن ابنيك، فقال المتوكل للأتراك: سلو لسانه من قفاه، ففعلوا، فمات” وفي سنة 237 هـ أرسل المتوكل إلى واليه على مصر يأمره بحلق لحية قاضي القضاة محمد ابن أبي الليث وأن يضربه كل يوم عشرين سوطا ويطوف به على الحمار انتقاما منه كونه من المعتزلة ومازال أهل الحديث يرون فعلته من مآثر المتوكل، وفي تلك الأثناء زادت الاضطراب وارتفعت حدة التوتر بين السلطة والرعية الأمر الذي أتاح فرصة “للعسكر الأتراك” للتآمر مع الابن (ولي العهد) المنتصر بالله ضد والده “المتوكل” وبعد أن قتل الابن والده بمساعدة الأتراك دخلت الدولة العباسية في نفق جديد من الاضطراب وأصبحت السلطة في يد قادة العسكر الأتراك، وقد حاول الابن أن يتخلص من العسكر فقتلوه بعد أقل من سنة من توليه الحكم سنة 248 هجرية واجتمع قادة الأتراك واختاروا عمه أحمد المستعين بالله، واستمر في الحكم إلى أول سنة 252 هجرية ولما تأكد من مكر الأتراك وسيطرتهم عليه هرب من سامراء الى بغداد فأرسلوا إليه يعتذروا ويخضعون له ويسألونه الرجوع فامتنع فقصدوا الحبس وأخرجوا المعتز بالله “ابن المتوكل” وبايعوه وخلعوا المستعين بالله.

وقد كان إنقلاب المتوكل على المعتزلة بداية نهاية الفكر العقلاني وتعرض كبار المعتزلة للقتل والسجن من قبل القوى الثلاث “السلطة وأهل الحديث والأشاعرة” وأحرقت كتبهم و حوربت أفكارهم ووصفوا بالتشيع والزندقة والكفر.

بعد إقصاء المعتزلة

بعد تكفير المعتزلة واقصائهم برز الفكر المضاد عند الإمام أحمد بن حنبل على مبدأ “الاعتقاد بعجز العقل” وتم تقديم النقل على العقل وتم إعتماد كتاب الرسالة للشافعي كمصدر أول للفقه وأصبح الحديث وحي ثاني يليه القياس ثم الإجماع وانشغل أهل الحديث في بحث الأسانيد وكان ابرزهم البخاري ومسلم اللذان جمعا أصح الروايات المنسوبة للنبي بناء على سند الرواية لا على نص الحديث وتناقلتها الأمة بلا نقد، وبما أن النقل أصبح مقدم على العقل تحول كل ما جُمع في هذه الكتب إلى دين يتعبد به وعقيدة راسخة حتى وإن كانت تتعارض مع القرآن ومع العقل.

هذا من جانب أهل الحديث، أما من داخل المذهب، فقد انشق أبو الحسن الأشعري عن المعتزلة وقال أنه رأى النبي في المنام وأن النبي طلبه منه التعويل على سنته “حيث يؤمن أهل الحديث بإمكانية رؤوية النبي في المنام وأن الشيطان لا يتمثل بصورة النبي وأن ورؤيا المؤمن جزء من 46 جزء من النبوة” وبناء على هذه الرؤية ترك الأشعري مذهب المعتزلة وقال أن الروايات المنسوبة للرسول وحي بمنزلة القرآن وأخذ يؤلف الكتب للرد على المعتزلة ونتج عنها المذهب الأشعري المعروف عند أهل السنة والجماعة، حيث يجيز اتباعه استخدام العقل لتأويل بعض الروايات التي تتعارض مع العقل والمنطق السليم وفي نفس الوقت يقدسون الروايات، ويضعون أنفسهم بين المعتزلة “أهل العقل” وبين الشافعية والحنابلة “أهل الحديث”.

يقول المفكر المصري المعاصر أحمد أمين 1886-1954 م

“كان للمعتزلة منهج خاص أشبه ما يكون بمنهج من يسميهم الفرنج “العقليين” عمادهم : الشك أولاً والتجربة ثانياً، والحكم أخيراً”
ويقول عن نظريتهم في حرية العباد “وقالت المعتزلة بحرية الإرادة و غلوا فيها أمام قوم سلبوا الإنسان إرادته حتى جعلوه كالريشة في مهب الريح”
ويضيف أحمد أمين في حق أبو إسحاق النظام” أمّا ناحيته العقلية ففيها الركنان الأساسيّان اللّذان سبّبا النهضة الحديثة في أوروبا وهما الشكّ والتجربة”
ويقول حول توحيد المعتزلة و تنزيههم لله: «وقد كانت نظرتهم في توحيد الله نظرة في غاية السموّ والرفعة، فطبّقوا قوله تعالى: (ليس كمثله شيء) أبدع تطبيق، وفصّلوه خير تفصيل وحاربوا الأنظار الوضعيّة من مثل أنظار الّذين جعلوا الله تعالى جسماً».
ويقول أيضا “فلنتصوّر الآن ماذا كان لو سار المسلمون على منهج الاعتزال إلى اليوم؟. أظنّ أنّ مذهب الشكّ والتجربة واليقين بعدهما كان يكون قد ربى وترعرع ونضج في غضون الألف سنة الّتي مرّت عليه، وكنّا نفضّل الأروبيّين في فخفختهم و طنطنتهم بالشكّ والتجربة الّتي ينسبونها إلى «بيكن» مع أنّه لم يعمل أكثر من بسط مذهب المعتزلة وكان هذا الشكّ وهذه التّجربة مما يؤدّي حتماً إلى الاختراع و بدل تأخّر الاختراع إلى ما بعد بيكن وديكارت، كان يتقدم مئات من السنين، وكان العالم قد وصل إلى ما لم يصل إليه إلى اليوم، وكان وصوله على يد المسلمين لا على يد الغربيّين، وكان لا يموت خلق الابتكار في الشرق و يقتصر على الغرب،
فقد عهدنا المسلمين بفضل منهج المحدِّثين يقتصرون على جمع متفرّق أو تفريق مجتمع، وقلّ أن نجد مبتكراً كابن خلدون الّذي كانت له مدرسة خاصّة، تلاميذها الغربيّون لا الشرقيون، فالحقّ أن خسارة المسلمين بإزالة المعتزلة من الوجود كانت خسارة كبرى لاتعوّض، ثمّ بدأ المسلمون ينهجون منهج الحضارة الغربيّة تقليداً من الخارج لا بعثاً من الداخل، وشتّان ما بينهما، فالتقليد للخارج بثّ فيهم ما يسمّيه علماء النفس مركب النقص، فهم يرون أنّهم عالة على الغربيّين في منهجهم، ولو كان من أنفسهم لاعتزّوا به”.

في الختام يجب أن نعترف أن بعض أفكار المعتزلة غير صحيحة كخلق القرآن والمنزلة بين المنزلتين ولكن الحق يقال أن المنهجية التي اتبعوها في فهم التنزيل الحكيم كانت صحيحة، والجدير بالذكر أنه لم يعد للمعتزلة في أيامنا هذه أي وجود كمذهب إسلامي مستقل وهذا لا يعني انعدام الفكر العقلاني نهائيا من عقول المسلمين فأنا أرى ميول في أوساط الشباب والمثقفين نحو المنهج العقلي الذي يتميز به المعتزلة ولكن هل يكون للسلطة دور في إعادة بعث المذهب من جديد ؟؟؟

———————-

ناصر بن تركي
كاتب سعودي

التعليقات