كتاب 11

02:19 مساءً EET

الولايات المتحدة والحرب المختلطة

تعمَّد الجيش الأميركي، في أعقاب حرب فيتنام، نسيان كل الدروس المستفادة من الأعمال الوحشية وغير الجيدة الناجمة عن عمليات حرب العصابات. وكان الجنرالات يعملون تحت تأثير افتراض أنهم إن لم يستعدوا جيداً لمثل هذه المواجهات العسكرية، فلن تصدر لهم التكاليف بخوضها. وكان التركيز خلال حقبتي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، حتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، يدور حول خوض المعارك التقليدية ضد الجيوش النظامية. ولقد كانت نتيجة ذلك جيدة إلى حد ما خلال حرب الخليج في عام 1991. غير أنها تركت القوات المسلحة الأميركية في حالة مزرية وغير متأهبة لخوض حروب ما بعد هجمات سبتمبر (أيلول) في أفغانستان والعراق.
وأخشى أن التاريخ يستعد لتكرار ذاته هذه المرة. عبر مناقشة كتابي الأخير حول عميل الاستخبارات الأميركية إدوارد لانسديل في أثناء حرب فيتنام، وكنت في زيارات متعددة لمختلف المواقع العسكرية الأميركية مثل كلية الحرب بالجيش في فورت بيننغ، وكلية الدراسات العليا البحرية ووزارة الدفاع الأميركية. وفي كل مكان ذهبت إليه، كنت أسمع أن الجيش يعيد توجيه تركيزه من جهود مكافحة التمرد إلى خوض الصراعات العسكرية التقليدية.
وهذا يتسق مع استراتيجية الدفاع الوطني التي أصدرها وزير الدفاع جيمس ماتيس، والتي تنص على: «يعد التنافس الاستراتيجي ما بين الدول، وليس الإرهاب، هو الشاغل الأول والرئيسي الحالي لسياسة الأمن القومي بالولايات المتحدة الأميركية». وقال الجنرال ماتيس إنه: «لا يزال تهديد الاستقرار قائماً مع مواصلة الجماعات الإرهابية، ذات الانتشار واسع النطاق، وقتل الأبرياء وتهديد السلام والأمن على نطاق أكبر»، ولكنه كان أكثر إعراباً عن التهديدات الناشئة من بعض القوى مثل روسيا والصين والأنظمة الحاكمة المارقة مثل إيران وكوريا الشمالية.
ويحمل تحليله قدراً معتبراً من المنطقية على مستوى معين، مع اعتبار أن كل الدول المناوئة للولايات المتحدة تعمل جاهدة على توسيع قدراتها العسكرية في الآونة الأخيرة. غير أن الصراعات العسكرية منخفضة الكثافة لم تتلاشَ من خريطة العالم بعد. فهي مستمرة ومتتابعة منذ فجر التاريخ (إذ تعتبر الحرب القبلية في حد ذاتها أحد أنماط حرب العصابات بالأساس)، وسوف تظل تشكل تهديداً كبيراً ومستمراً على الرغم من فقدان تنظيم داعش خلافته المزعومة في الشرق الأوسط.
وفي حين أننا ما زلنا نشهد التهديدات الإرهابية وحروب العصابات هنا وهناك، فإننا نواجه في ذات الوقت تحديات غير تقليدية من دول أخرى مثل الصين وإيران وروسيا التي تمارس نمطاً من الحروب «اللامتناظرة»، أو «الرمادية»، أو «المختلطة». وكما أشارت استراتيجية الدفاع الوطني الأميركية: «تستخدم القوى الرجعية والدول المارقة، عبر المنافسات غير المسلحة، أسلحة الفساد، والممارسات الاقتصادية العدائية، والدعاية الموجهة، والتخريب السياسي، والحروب بالوكالة، والتهديد باستخدام أو الاستخدام الفعلي للقوة العسكرية المحدودة في محاولات تغيير الحقائق الواقعة على الأرض».
وتملك روسيا، بشكل خاص، براعة تتسم بالتميز في هذا النوع من الحروب. لقد وجه المحقق الخاص روبرت مولر الاتهامات، وفرضت وزارة الخزانة العقوبات على «وكالة أبحاث الإنترنت» الروسية ومقرها في سان بطرسبرغ، لقاء جهودها الناجحة في تخريب انتخابات عام 2016 الرئاسية الأميركية. وفي نفس الوقت تقريباً، هاجمت قوات المرتزقة الروسية، التابعة لشركة خاصة تدعى «فاغنر غروب»، القاعدة العسكرية الأميركية في سوريا، غير أنها تكبدت الخسائر الشديدة الفادحة من القوات الجوية الأميركية.
والمفاجأة أن «وكالة أبحاث الإنترنت» الروسية وشركة «فاغنر غروب» تعودان لملكية شخصية واحدة، وهو الملياردير الروسي البارز يفغيني بريغوشين، الموصوف إعلامياً باسم «الشيف» الخاص بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، نظراً إلى أنه بدأ رحلته في عالم المال والأعمال من إدارة المطاعم. ومن المعروف أن بريغوشين لا يجرؤ على الذهاب إلى أي مكان من دون إذن بوتين، ولكن حقيقة أنه ليس موظفاً حكومياً رسمياً تمنح الكرملين حق «إنكار» ضلوعه في تنفيذ تلك الاعتداءات المذكورة. ومن خلال استخدام حفنة من ضباط القوات الخاصة في أوكرانيا وسوريا، تمكن بوتين من توسيع نفوذه على الأرض مع الحد من مخاطر اندلاع الحرب العالمية الثالثة قدر الإمكان.
واستخدم الرئيس الروسي قدراً مماثلاً من الدهاء عبر عملياته السرية المنفذة في أوروبا والولايات المتحدة. فلقد عمل على دعم الزعماء المولعين بروسيا مثل سيلفيو برلسكوني في إيطاليا، وفيكتور أوروبان في هنغاريا، والدعم لحملة ترمب، في حين يزرع الانقسام والشقاق والفساد في المجتمعات الغربية. وتفصّل لائحة اتهامات السيد مولر كيف دفع بول مانافورت، مدير الحملة الانتخابية للرئيس ترمب، لحفنة من السياسيين الأوروبيين –بما في ذلك المستشار النمساوي الأسبق ألفريد غوسينباور– مبلغاً قدره 2.5 مليون دولار، لممارسة الضغوط اللازمة بالنيابة عن الحكومة الموالية لموسكو في أوكرانيا.
وليس هناك من خطأ في إعادة بناء القدرات القتالية التقليدية في جيش الولايات المتحدة. وبكل تأكيد، شراء المزيد من المقاتلات والمدمرات. وقضاء المزيد من الوقت في التدريب على المدفعية والدبابات. فلا غنى عن هذه الأسلحة للمحافظة على قدرات الردع والحفاظ على السلام. ولكن يجب عدم الاستناد إلى تصور أن هذه القوة النيرانية سوف تحافظ على أمننا وسلامتنا بمفردها. إذ تحتاج الولايات المتحدة وبصورة عاجلة إلى تعزيز قدراتها الدفاعية ضد الحروب المختلطة.
تعمل دول مثل السويد وإيطاليا على مكافحة التدخلات الروسية في الانتخابات المحلية من خلال تثقيف المواطنين حول «الأخبار المزيفة»، وإغلاق الثغرات التي يمكن للقراصنة استغلالها. (ومع ذلك، فاز الشعبويون الموالون لروسيا في الانتخابات الإيطالية الأخيرة). بيد أن الأدميرال مايكل روجرز، قائد القيادة السيبرانية الأميركية، شهد أمام الكونغرس أنه لا يملك ما يكفي من الصلاحيات اللازمة لمكافحة تدخلات الكرملين في الانتخابات الأميركية، وأن الجانب الروسي «لم يدفع ثمن التدخلات بما يكفي لحمله على تغيير سلوكياته في ما بعد»، كما قال.
تنال الجنرالات الاتهاماتُ غالباً بخوضهم الحرب الأخيرة. وفي واقع الأمر، فإنهم أكثر عرضة للاستعداد لخوض الحرب المستقبلية التي لا تنشب أبداً، في حين أنهم يتغافلون عن الصراعات الآنيّة. ومن شأن وزارة الدفاع الأميركية تكرار نفس الخطأ إنْ ركزت جهودها على خوض الحروب التقليدية بأكثر من التركيز على مواجهة التهديدات المختلطة. وإنصافاً للقول، فإن هذا ليس خطأ الجنرال ماتيس بالكامل. فإن خوض الحروب المختلطة يستلزم قدراً معقداً ومكثفاً من التعاون المدني العسكري.

التعليقات