كتاب 11

02:40 مساءً EET

الاقتصاد وضرب المشروعية السياسية

ما يحدث اليوم في تونس، ودون الدخول في تفاصيل لا تهمّ القارئ العربي بشكل عام، يؤكد الفكرة الأساسية التي يتهرب منها معظم النخب السياسية الحاكمة في الفضاء العربي، وهي أن النجاح الاقتصادي الذي تحققه النخبة السياسية الحاكمة وحده بات يحدد اليوم مضمون مشروعيتها السياسية.
نعتقد أن ما يحصل منذ مدة وتطوره في الأيام الأخيرة من توتر وتلاسن وعزوف شعبي عن السياسة والسياسيين وضعف الثقة تجاههم، كل هذا يدعم ما ذهبنا إليه من علاقة عضوية بين التنمية والاستثمار والاقتصاد غير المتأزم على الأقل والمشروعية السياسية.
فالمطلب الطاغي هذه الأيام في تونس هو تخلي رئيس الحكومة عن منصبه، والاعتراف بأن فريقه الحكومي فشل في حل المشكلات الاقتصادية وفي إشباع الحد الأدنى من التوقعات.
طبعاً تطور الانتقادات وارتفاع لهجة التقريع السياسي مرتبطان بشكل واضح بنتائج الانتخابات البلديّة الأخيرة، التي تكبَّد فيها الحزب الحاكم الأول خسارة كبيرة أضعفته، ناهيك بمظاهر الضعف التي يعاني منها، والمتمثلة في الانشقاقات المتواصلة وتفككه. ويبدو أن الجناح المهيمن في حركة «نداء تونس» أراد شن حملة ضد رئيس الحكومة وإسقاط الحكومة كنوع من تحميل رئيس الحكومة وسياسته مسؤولية الفشل في الانتخابات البلدية. وهي حركة من بين ما يراد منها الاستعداد للانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة التي ستنعقد في أواخر العام القادم. وهو استعداد اتخذ طابعاً شرساً وحرباً معلنة بين رئيس الحكومة والمدير التنفيذي لحركة «نداء تونس» وهو ابن الرئيس الحالي السيد حافظ قائد السبسي. فالحرب باتت معلنة وتسمي الخصوم بأسمائهم، مما يعكس عمق الخلافات والتنافس العنيف على الانتخابات القادمة خارج صناديق الاقتراع وقبلها بأشهر.
ولو نعود بالذاكرة إلى الوراء قليلاً سنجد أنه في نفس هذا التوقيت من العام السابق كانت أسهم رئيس الحكومة السيد يوسف الشاهد، مرتفعة جداً وتصدر المرتبة الأولى في دراسات سبر الآراء، وذلك للخطوات التي قام بها في ما يسمى قضايا الفساد.
ولكن بلفت النظر عن الصراعات من أجل المناصب ومحاولة تسهيل أمر الانتخابات القادمة بإبعاد الوجوه التي يمكن أن تجعل منها انتخابات صعبة وغير مضمونة النتائج، فإن السبب الرئيسي في التوترات والحملة التي تواجهها حكومة السيد يوسف الشاهد، اقتصادي بالأساس. ولو كان نجح ولو قليلاً في معالجة الأزمة الاقتصادية والمالية، وانهيار الدينار التونسي المتواصل، وأبواب العمل المغلقة في وجه أكثر من 15% من التونسيين وبعض الجهات يصل إلى الضِّعف… لو حققت الحكومة الراهنة القليل من النجاح لكانت أقوى ولاستحال على خصومها المطالبة باستقالتها والاعتراف بالفشل.
إن الفشل الاقتصادي، وتأزُّم الأوضاع أكثر خلال العام الراهن، وارتفاع الأسعار المشطّ، وعجز الحكومة عن الإيفاء بوعودها في الزيادة في الأجور… كل هذا سحب منها المشروعية السياسية رغم أنها حكومة تتمتع بثقة البرلمان.
إذن، الدرس التونسي كما يبدو لي: لا يكفي أن تحكم لأنك الفائز الأول في انتخابات ديمقراطية ولا يكفي أن يصادق البرلمان على الفريق الحكومي الذي تم تشكيله… الأهم هو ما يظهر بعد هذه الخطوات الأساسية، ويتمثل في مدى دوران عجلة الاقتصاد من عدمه، وهل انخفض عدد العاطلين عن العمل، وما هو حال العملة الوطنية أمام اليورو والدولار، وهل يمكن للفقير أن ينام دون أن تئن معدته ومعدة أطفاله من الجوع والحرمان؟
هنا تكمن التحديات الحقيقية، وهنا أيضاً تظهر القدرة من عدمها على ابتكار الحلول ومعالجة الأزمات. غير أن الحكومة الراهنة زجت بنفسها في ورطة قانون للمالية صادق عليه البرلمان رغم انتقادات الجميع. وأغلب الظن أن هذا القانون الذي أثقل كاهل التونسي وضغط عليه أكثر مما يجب هو الذي سيطيح الجميع أو أنه سيجعل نسبة المشاركة في الانتخابات القادمة فضيحة حقيقية وضربة موجعة للفاعلين السياسيين دون استثناء لأن من طبيعة الفشل أنّه يشمل الجميع ولا يميز.
أيضاً اللافت أنه سواء المعارك الصامتة أو المرتفعة الصوت كلها تحوم حول المناصب واللهث وراء السلطة والحكم مع غياب تام لمعركة ولو يتيمة حول التوجهات والاختيارات. لذلك فإن وسائل الإعلام والسياسيين الذين لا يتمتعون بقواعد شعبية أصبحوا يركزون على أهمية التصويت في الانتخابات القادمة على برامج مقنعة لا على وجوه وأسماء فشلت في حل الأزمة. ولعل هذه النقطة هي الإيجابية الوحيدة الآن، إذ بدأ يتشكل الوعي بالتصويت على برامج قبل كل شيء، وهي مسألة قد تجبر الأحزاب كافة على إيلاء هذه المسألة الجدية التي لم تكن موجودة.
المشكل الآن أن رهان ملايين من التونسيين على حركة «نداء تونس» قد تعرض لإحباطات متتالية تصب كلها في رصيد حركة النهضة التونسية وهو ما يعده الحداثيون أكبر خطأ قامت به «نداء تونس».

التعليقات