كتاب 11

03:49 مساءً EET

إردوغان يتخذ بعض الأصدقاء المثيرين للقلق

تشهد العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا حالة من التدهور السريع تقارب وتيرة هبوط الليرة التركية في الآونة الأخيرة. وفي خطاب ألقاه على ساحل البحر الأسود، السبت الماضي، دقّ الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إسفيناً جديداً ضد أحد أوثق حلفائه، مهدداً بالتحول من معسكر إلى آخر!
قال الرئيس التركي مخاطباً الحشد المنصت إليه: «ينبغي على واشنطن، وقبل أن يفوت الأوان، التخلي تماماً عن الفكرة المضللة التي تتبناها بأن علاقاتها مع تركيا يمكن أن تكون غير متناظرة، وعليها الاعتراف بأن تركيا لديها فسحة من البدائل الأخرى». فإن استمرت حالة عدم الاحترام الراهنة، فمن حق حكومته أن تبحث عن أصدقاء وحلفاء جدد. وضاعف الرئيس التركي من حدة خطابه العام الموجهة إلى الولايات المتحدة داعياً إلى مقاطعة البضائع الإلكترونية الأميركية مثالاً بهاتف الآيفون.
ويعني الرئيس التركي بعبارة الأصدقاء الجدد، روسيا – وربما إيران على نطاق أضيق. وكما هو الحال اليوم لدى تركيا، فإن كلا البلدين – تركيا وروسيا – تخضع لحكم مطلق، في مواجهة العقوبات الأميركية وإلقاء تبعة الأوضاع الاقتصادية المتدهورة في البلاد على عاتق الأعداء في الخارج. وتشترك أنقرة وموسكو في حالة عميقة من انعدام الثقة إزاء الغرب، وظل التعاون في ما بينهما قائماً طيلة سنوات الأزمة السورية، في حين العمل المستمر على تعزيز الروابط الاقتصادية الثنائية بين الحكومتين.
وليس من المستغرب أن الليرة التركية قد نالها من الألم والضرر الشيء الكثير، رغم الانتعاش المتواضع الذي حققته؛ مع حالة المعاناة الشديدة والمماثلة التي تكابدها العملات الروسية والإيرانية على التوالي. وهناك أمر مثير للمزيد من القلق بشأن أحد أقدم حلفاء الولايات المتحدة الذي بات يهدد بأن يتجه شطر المنافس التاريخي والخصم اللدود بدلاً من ذلك. ولكن هل يحمل ذلك التهديد أي قدر معتبر من المصداقية؟
بين روسيا وتركيا حالة قديمة وتاريخ طويل من التعاون والصراع المعروف. ونشب بين الجانبين الصراع المسلح الذي يرقى إلى مستوى الحرب المفتوحة لما لا يقل عن عشر مرات كان النصر حليفاً لروسيا في أغلب تلك المواجهات. وتولت الحكومة البلشفية الروسية ما بعد ثورة عام 1917 زمام المبادرة في مد جسور الدعم والتعاون للفئة القومية التي نشأت في تركيا بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية. حتى إن الزعيم الشيوعي لينين كان متحمساً جداً في أن يأخذ القادة الآسيويون الجدد الأمر بجدية ويعقدوا العزم على التوجه شرقاً صوب النظام السوفياتي، ويتحولوا، من خلال مراحل معينة من التطور السياسي، إلى اعتماد الشيوعية في نظمهم الحاكمة. وكانت صناعات الصلب والألمنيوم، والتي صارت التيمة الرئيسية لحرب الرئيس دونالد ترمب التجارية الراهنة، قد أُنشئت بمساعدة سوفياتية خالصة في ستينات القرن الماضي.
ومع ذلك، فإن انضمام تركيا إلى منظمة حلف شمال الأطلسي، والآمال الطويلة المعقودة في الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن العلاقات الوثيقة التي تربط أنقرة بواشنطن، كانت تعني في وقت من الأوقات أن العلاقات القائمة بين موسكو وأنقرة تستند إلى حالة من حالات الارتباط الآني أو المؤقت غير المستدام. إذ جمع تباين المصالح الواضح ما بين الغريمين في المستنقع السوري، والذي كانت تركيا تلعب فيه دور المعارض الصلد العنيد في مواجهة نظام بشار الأسد ولفترة ليست بالوجيزة، الأمر الذي أسفر عن انهيار تام في العلاقات بين موسكو وأنقرة إثر إسقاط الأخيرة إحدى الفاذفات الحربية الروسية في عام 2015، غير أن الرئيس التركي قد تقدم باعتذاره لنظيره الروسي فلاديمير بوتين عن الحادثة في عام 2016 ثم شهدت الفترة التالية نوعاً من التقارب الباهت بينهما منذ ذلك الحين.
نجمَ التغيير المشهود عن جملة من الأمور المعروفة. فبعد الهزيمة المنكرة التي لحقت بالقوات الموالية لتركيا داخل سوريا على أيدي القوات الروسية العاملة هناك، تحول التركيز التركي صوب انتهاج سياسة «احتواء» القوات الكردية السورية، والتي يخشى إردوغان كثيراً من اتحادها مع ميليشيات حزب العمال الكردستاني المناوئ لأنقرة وتحوله إلى تهديد وجودي قائم هناك.
ومهّدت التغييرات الجارية في الواقع السوري، إلى جانب أزمة الثقة الراهنة بين أنقرة وواشنطن، فضلاً عن اعتقال القس الأميركي برونسون في تركيا، الطريق لعلاقات أكثر قرباً ودفئاً بين تركيا وروسيا. وجاء القرار التركي بشراء منظومة الدفاع الجوي الروسية المتقدمة (إس – 400) مُشكِّلاً سابقةً غير معهودة من جانب الدول الأعضاء في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والذي اعتبرته موسكو إشارة قوية على عمق العلاقات مع أنقرة بعد فتور واضح.
ورغم ذلك، فمن الغريب للغاية أن العلاقة الوثيقة التي تربط تركيا مع روسيا راهناً تحمل في طياتها نفس أمارات الاختلال في موازين القوة التي يزدريها إردوغان أيّما ازدراء في معرض علاقاته مع البلدان الغربية. وفي واقع الأمر، يبدو أن موسكو، كعهدها دائماً، يروق لها الإمساك بكل خيوط اللعبة وحدها.
تعمل روسيا على إمداد تركيا بما يقارب نصف احتياجاتها من الغاز الطبيعي سنوياً، ومن شأن خط أنابيب «تورك – ستريم» أو «الشريان التركي» الجديد، الذي تخطط شركة «غازبروم» الروسية العملاقة لاستكمال تشييده بحلول العام المقبل، أن يزيد من حالة الاعتماد التركي على إمدادات الطاقة الروسية في الأعوام القادمة. كما منح الرئيس التركي إردوغان شركة «روزاتوم» النووية، المملوكة للحكومة الروسية، حقوق إنشاء محطة «أكويو» النووية في تركيا – في عرض بلغت قيمته المبدئية 20 مليار دولار من التعاون الروسي التركي المشترك. وعرضت الشركة الذرية الروسية تغطية تمويل المشروع العملاق في مقابل الحصول على نسبة 51 في المائة من المِلكية. ومن شأن المحطة النووية التركية الجديدة أن تغطي نسبة 10 في المائة من الاحتياجات التركية السنوية من الطاقة.
وهناك نمو ملحوظ على صعيد التجارة التركية مع روسيا، غير أنها لا ترقى إلى مستوى مصالح أنقرة الاقتصادية في أوروبا. فأكثر من 80 في المائة من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة في تركيا بين عامي 2002 و2016 نابعة من البلدان الغربية. ولا تتجاوز نفس النسبة مع روسيا حاجز 6 في المائة فقط. وارتفعت الصادرات التركية إلى روسيا بصورة كبيرة في عام 2017، غير أنها لا تزال أقل من نقطتين مئويتين فقط على أي مقياس، وهي تأتي مباشرة بعد الصادرات التركية إلى ألمانيا، ثم الولايات المتحدة الأميركية، ثم أخيراً العراق.
ومن الصعب رؤية السيد إردوغان ممارساً المزيد من الضغوط على ملف التجارة مع موسكو، على اعتبار القيود الاقتصادية القائمة لدى روسيا. وتحدث الزعيم التركي عن استخدام العملات الوطنية بدلاً من الدولار الأميركي في التجارة التركية الروسية ومع بلدان أخرى، وهي الفكرة التي تشرف عليها وتؤديها روسيا تماماً. ولكن هل من الواقعي اتخاذ خطوة كهذه في تلك الأثناء؟ كان الاتحاد السوفياتي السابق يستخدم أسلوب المقايضة، والتجارة المضادة، والعديد من اتفاقيات المقاصة الثنائية للالتفاف حول حقيقة أن الروبل الروسي غير قابل للتحويل بحرّية، وأنه قيد التداول فقط ضمن بلدان الكتلة الشيوعية القديمة وفق هذه الطريقة. ولا تعتبر التجارة القائمة على العملات الوطنية بعيدة كل البعد عن عالم الكوميكون القديم (مجلس التعاون الاقتصادي الذي كان تحت رعاية وإشراف الاتحاد السوفياتي حتى انهيار الاتحاد في تسعينات القرن الماضي).
والسيد إردوغان أذكى من ألا يعترف بمحددات الصداقة التي تربطه بالاتحاد الروسي. بيد أن فلاديمير بوتين قد لعب بمنتهى الدهاء بأسوأ مخاوف الزعيم التركي إزاء الغرب وإزاء أعدائه في الداخل كذلك. وتعكس «حالة» العلاقات الثنائية المتنامية بين البلدين رغبة إردوغان الأكيدة في النأي بتركيا عن فلك الولايات المتحدة مع اعتبار أولوياته الداخلية المزدوجة، وهي: الحيلولة دون اندلاع انقلاب جديد على نظامه الحاكم والتأهب لأي تحديات قد يشكلها الأكراد. ووفقاً لذلك تأتي الاعتبارات الاقتصادية في المرتبة الثانية، ولو لراهن الأحداث الجارية على أدنى تقدير.
غير أن الأمور تتحول وتتغير بوتيرة شديدة السرعة في الأوقات المحمومة. ولقد أثبت السيد إردوغان مقدرته على التحول السريع وفق ما تمليه الظروف الراهنة والتقدير المنطقي للمواقف، تماماً كما تبنى التعاون الكامل مع روسيا بشأن سوريا أخيراً. وربما يناله الإنهاك السياسي في خاتمة المطاف من استبدال علاقة «إذعان» بأخرى.

التعليقات