مصر الكبرى

11:26 صباحًا EET

حل «جماعة الإخوان المسلمين»: الضرورة الإقليمية والدولية (2)

هناك ثلاث ضرورات تبرر وتستدعي الدعوة إلى حل جماعة الإخوان المسلمين في المرحلة الحالية والتي أعقبت الربيع العربي، وتفترض تحولهم الكلي إلى أحزاب سياسية وطنية في بلدانهم تشتغل ضمن السيادة الوطنية، وتخضع لما تخضع له بقية الأحزاب السياسية، عوضاً عن الشكل التقليدي الذي عرفت به، والذي يخلط الولاءات ويتجاوز الحدود المعروفة للدول والمجتمعات. الضرورة الأولى وطنية، أي لها علاقة بالاجتماع السياسي المتشكل داخل الوطن الواحد، وتم نقاشها في المقالة السابقة، (21 تشرين الأول/أكتوبر) والثانية ضرورة إقليمية ودولية سوف يتم نقاشها في هذه السطور، والثالثة ضرورة تنظيمية، أي داخلية لها علاقة بالبنية التكوينية والهيكلية والنمط والسيكولوجيا التنظيمية التي تتحكم بالأفراد في أي جماعة إسلامية ومن ضمنها الإخوان، وسوف تُناقش في المقالة القادمة.

أن تحل جماعة الإخوان المسلمين نفسها في حقبة ما بعد الربيع العربي وتتحول من جماعة كلية ما فوق دولتية، أي مكونة من جماعات عديدة في بلدان مختلفة تتبع القيادة نفسها في مصر، سواء بشكل فعلي أو رمزي، وتعتبر المرشد العام القائد الأعلى لها، معناه أن تتحول إلى شكل مختلف تماماً بحيث تصبح فيه كل جماعة إخوان مسلمين في بلد من البلدان حزباً سياسياً مستقلاً لا علاقة تنظيمية أو هيكلية له بالجماعة الأم. وهناك أسباب جوهرية عدة، كانت دوماً متواجدة تستدعي هذا التحول لكنها اليوم تتبلور بحدة اكثر في زمن وصلت فيه جماعات الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم، أو المشاركة فيه. السبب الجذري والأهم والذي تتفرع عنه بقية الأسباب هو اصطدام فكرة «الجماعة العابرة للحدود الوطنية» مع فكرة السيادة الوطنية التي تجسدها الدول الحديثة القائمة على أساس الدولة-الأمة (nation-state). الدولة الوطنية الحديثة هي البنية القانونية والدستورية الناظمة للعمل السياسي والذي يشتغل بدوره تحت سقفها ويهدف إلى تقويتها والدفاع عنها ويقر بكونها بوصلة الولاء السياسي والناظم الأول والأهم في شكل الاجتماع السياسي وآلياته. وعندما تكون هذه الدولة الوطنية الحديثة ديموقراطية فإن اهم آليات الاجتماع السياسي تتمثل في الأحزاب التي تتنافس ديموقراطياً للوصول إلى الحكم، وفق القانون والدستور المرتبط عضوياً بالدولة الوطنية. كل الولاءات التي هي أدنى من مستوى الولاء للدولة، بما فيها الولاء للقبيلة والولاء للطائفة الدينية، والولاء للإثنية، يجب أن تأتي في مرتبة ثانية بعد الولاء للدولة لأن كل فرد من الأفراد مُعرّف بكونه مواطناً ذا حقوق وواجبات بسبب وجود هذه الدولة. وكل الولاءات التي هي فوق مستوى الولاء للدولة، بما فيها الولاء للأيديولوجيات العابرة للحدود (مثل الأممية الاشتراكية أو الأممية الإسلاموية أو القوميات فوق الوطنية) أو الولاء لجماعة أو حزب ذي هدف وامتداد إقليمي، كل ذلك يجب أن يأتي في مرتبة ثانية وأن يتم إخضاعه للولاء للدولة. هذا الافتراض النظري في تصويب الولاءات باتجاه الدولة لترسيخها وتكريسها لا يقوم في واقع الأمر بهذه السهولة وبخاصة عندما تكون الدولة غير ديموقراطية وغير عادلة ومستبدة. في هذه الحالة، أي عندما تكون الدولة باطشة، تصبح مصدراً للعداء وليس للولاء للأفراد، وهؤلاء بدورهم يهربون منها بحثاً عن مصادر حماية أخرى قد تكون في القبيلة والطائفة أو الجماعة العابرة للحدود. في حالة الدولة الباطشة تتشتت ولاءات المواطنين ويصعب «بوصلتها» باتجاه «وطني موحد» قائم على أفكار المساواة القانونية والدستورية التي تضمن العدل والحرية والكرامة للمواطنين. هذا ما كانه وما زال عليه الوضع في الأغلبية الكاسحة من بلدان العالم العربي. وفي هكذا وضع تنشأ كل التشوهات السياسية الممكنة ومن ضمنها ميوعة الولاءات السياسية للدول والاستهزاء بها، وترسخ بنى حزبية وسياسية تكون ولاءاتها موجهة إلى مرجعيات وربما دول أخرى.
التغير الكبير الذي أحدثه الربيع العربي في بعض الدول يتمثل في إدراج هذه الدول ومجتمعاتها وأحزابها في عملية انتقال قد تكون طويلة الأمد من مرحلة الدولة الباطشة إلى مرحلة الدولة الديموقراطية القانونية والدستورية. ولضمان حدوث هذا الانتقال الذي يحدث على مستوى الدولة لا بد من سلسلة من «الانتقالات» والتغيرات الجذرية على مستويات أخرى، ومن ضمنها مستوى الآليات السياسية والحزبية. بمعنى آخر، وفي ما خص الأحزاب والجمعيات السياسية، يجب أن تتخلص هذه من الوسائل والمناهج التي كانت تتبعها في مرحلة البطش والاستبداد وخلال تطبيق استراتيجيات الهرب وتفادي جبروت السلطة الحاكمة. مثلاً، الجمعيات والجماعات التي كانت ترتكز على قواعد طائفية أو عشائرية أو دينية لتحقيق حماية لأفرادها من تغول الدولة يجب أن تعيد تشكيل نفسها، لتعمل على المساهمة في ترسيخ الشكل القانوني والمساواتي والدستوري للدولة الديموقراطية الجديدة. وينطبق الأمر نفسه على الأحزاب والجماعات التي كانت تتوسل آليات امتداد خارجي يمنحها بعداً حمائياً وأيديولوجياً، فهذه الأخرى يجب أن تعيد تشكيل نفسها لأن إبقاءها على تلك الآليات معناه إضعاف، لا ترسيخ، الشكل القانوني والدستوري الجديد الذي انتجه الربيع العربي. وهنا وعلى وجه الخصوص يجب على «جماعة الإخوان المسلمين» أن تتذكر أنها نشأت وتطورت، وتبلور فكرها الأممي العابر للحدود، في ظل أنظمة دكتاتورية وبخاصة في بلد الأصل، مصر، وهي نشأة متأثرة بالظروف المحيطة ومستجيبة لها. أما الآن فقد انتهت تلك الظروف وتبدلت بشكل جذري بخاصة في دول الربيع العربي الذي وفر للجماعة ليس فقط حرية العمل السياسي بل والوصول إلى سدة الحكم في معظم هذه الدول.
الإبقاء على «جماعة الإخوان المسلمين» كتنظيم دولي عابر للحدود معناه الإبقاء على شكوك عميقة تحيط بطبيعة الولاء وجهته لكل فرع من فروع هذه الجماعة تحول إلى حزب سياسي في بلده، وهي شكوك لا يمكن دحضها بسهولة. الانفتاح السياسي في المنطقة، وبخاصة في دول الربيع العربي، يوفر إغواءً كبيراً للقوى السياسية الدينية كي تطلق من قمقم الأحلام والأوهام طروحات تدميرية لا علاقة لها بواقع السياسة ولا تعمل على تكريس الشكل القانوني والدستوري والديموقراطي لدول الربيع. يكفي أن نتذكر عدداً من تصريحات بعض قادة الإخوان والإسلاميين في مصر وتونس بشأن الخلافة الإسلامية، وحول كون الرئيس مرسي مثلاً رئيساً لكل المسلمين وليس لمصر وحدها أو سوى ذلك لنتلمس مدى الارتباك بين ما هو «وطني» وما هو «أممي» في الذهنية الإسلامية الراهنة.
والأمر المهم ذو العلاقة هنا هو مصير جماعات الإخوان المسلمين في بقية الدول العربية والتي لم يحدث فيها أي «ربيع». في هذه الحالات تتفاقم الإشكالية. فمن جهة لم تصل هذه الجماعات إلى الحكم كما وصلت نظيراتها في البلدان الأخرى، بل قد تكون ممنوعة من العمل السياسي أصلاً، ومن جهة ثانية تنظر بعين الولاء إلى الجماعة الأم في مصر، التي وصلت إلى الحكم، على حساب الولاء «الوطني» الذي يشوبه الغموض الناتج من الاستبداد وفقدان الحرية السياسية. قد تتطور علاقة «استقواء» بحيث تأمل الجماعات الضعيفة بدعم «مصر الإخوانية» لها لتمكينها من الحكم. كل ذلك يطور علاقات حزبية جماعاتية إخوانية هي فوق حدود «الدولة الوطنية» بما لا يكرس صيغة هذه الدولة في مرحلة اندراجها في الدمقرطة والدسترة والقوننة. معنى ذلك أن القفز الدائم خارج حدود الدولة الوطنية معناه استرذال الدولة الوطنية حتى في صيغتها الديموقراطية. وفي الوقت ذاته يثير مخاوف كبيرة في بقية الدول العربية ويعيق علاقاتها مع مصر الجديدة، أو الدول التي وصل فيها الاسلاميون إلى الحكم بشكل عام. طبعاً من حق الإخوان وكل الأحزاب الدعوة والترويج ديموقراطياً واختيارياً لأي صيغة من صيغ التكامل والوحدة على مستوى العالم العربي، لكن يجب أن لا يكون ذلك فوقياً ومفروضاً بقوة السلطة، كما حدث خلال عقود مريرة من حكم البعثيين وأدعياء القومية العربية، وعلى كل دعوة فوق دولتية أن تستفيد من تلك التجربة التي دفع العرب ثمنها غالياً وباهظاً جداً.
اخطر ما في هذا الموضوع هو أن يُنشئ الإخوان المسلمون، بوعي أو من دونه، شكلاً من أشكال «ولاية الفقيه»، وهذه المرة «ولاية فقيه سنية» يرى الاسلاميون من خلالها أن مرجعيتهم الدينية والأيديولوجية والسياسية هي في «مصر الإخوانية»، وأن الولاء لتلك المرجعية يسبق ولاءهم لدولهم الوطنية. وفي هكذا وضع تصبح الحالة الشاذة والغريبة المتمثلة في ولاء «حزب الله» لإيران على حساب لبنانيته وما يسببه هذا الولاء (بسبب اعتماد الحزب أيديولوجية ولاية الفقيه) من تدمير حقيقي للحياة السياسية الديموقراطية في لبنان، تصبح هذه الحالة هي النمط الإسلاموي السني في المنطقة العربية، وهذا كفيل بأن يحبط أي آمال جلبها الربيع العربي.

التعليقات