مصر الكبرى

08:10 صباحًا EET

في الانتخابات الأميركية: قم باختيار نموذج الرأسمالية الذي يناسبك

يشعر الناخبون الأميركيون، الذين سيتوافدون على صناديق الاقتراع اليوم، بالقلق الشديد على اقتصادهم، حيث أصبحنا لا نثق في الحكومة أكثر من أي وقت مضى. فنظرا لانتشار البطالة والشعور المستشري بخيبة الأمل جراء عقد كامل من غياب مكاسب الدخل بالنسبة للطبقة المتوسطة، يتشكك كثيرون منا في صورة أميركا الوطنية كمجتمع يوفر فرص الحصول على الرفاهية للجميع.

ونظرا للاختلاف الجذري في النماذج المطروحة على المواطنين الأميركيين لمواجهة المشاكل التي تواجه البلاد، يتوجب على الناخبين أن يفكروا في مسألتين في منتهي الأهمية: ما هي طبيعة تلك المشاكل؟ وكيف وصلنا إلى هذا الوضع؟ وقبل كل شيء، ينبغي علينا كمجتمع مواجهة خياراتنا التي تسببت في وضعنا في هذا المأزق.
ظل الشعور بالضعف الاقتصادي يتزايد عند الطبقة الوسطى على مدار عقود طويلة، حيث إنه بدأ قبل وقت طويل من الأزمة المالية العالمية والركود الذي شاب الأعوام الأربع الماضية. يمكننا تفسير هذا الأمر على أنه نتاج لبعض القوى الخارجة عن سيطرتنا: مثل التكنولوجيا – التي أدت إلى استخدام التقنيات الآلية بدلا من العمال في كثير من الوظائف – والعولمة – التي وضعت العامل الأميركي في منافسة مباشرة مع العمالة الرخيصة في كثير من البلدان الفقيرة حول العالم. أدت هذه التغييرات التي لا هوادة فيها إلى تمكن عدد قليل من جني المزيد من الأرباح، بينما مثلت تهديدا مباشرا على الوظائف وتسببت في تقليل الأجور بالنسبة لبقية المواطنين.
وعلى الرغم من الدقة الكبيرة التي يتمتع بها هذا التحليل، فإنه يتجاهل دور الخيارات التي لجأنا إليها لإدارة هذه الديناميكيات العالمية القوية. فعلى مدار العقود الثلاثة الماضية، ضربت العولمة والتكنولوجيا الحديثة، التي تتقدم بسرعة فائقة، كل بلدان العالم. ولكننا قمنا بتطوير طريقة فريدة من نوعها في العالم، حيث قمنا ببناء نموذج رأسمالي أكثر وحشية مقارنة بمعظم الدول الصناعية الأخرى. نحن بالفعل أكثر تشككا في الحكومة، ولكننا على استعداد لقبول النتائج التي تفرزها السوق، بما في ذلك انتشار عدم المساواة والفقر المدقع، حيث إننا نميل، أكثر من مواطني البلدان الأخرى، للإيمان بأن النجاح والفشل هو أمر يستحقه الإنسان.
إن نموذج الرأسمالية الذي طورناه هو ما قادنا إلى ما وصلنا إليه اليوم. ربما تكون الولايات المتحدة الأميركية مكانا جيدا لتجميع الثروة، فضلا عن أنها تعتبر، من دون أدنى شك، واحدة من الاقتصادات الأكثر ابتكارا وريادة للأعمال في العالم، نظرا لأنها تقوم بإنتاج التكنولوجيا الضرورية لزيادة النمو في العالم، ولكن النموذج الأميركي لم يكن فعالا في نقل الثروة إلى القاعدة العريضة من المواطنين.
ربما يبدو الأمر الآن كما لو أن مشاكلنا الاجتماعية والاقتصادية هي مجرد نتاج للعولمة الآخذة في الانتشار، ولكنها تعد في حقيقة الأمر نتيجة للطريقة التي اخترناها للتعامل مع الفرص والتحديات الموجودة في عالمنا الحديث. لقد كان لنهج الرأسمالية الأكثر وحشية الذي اتبعناه آثار اجتماعية باهظة.
قد تكون الولايات المتحدة الأميركية من أقل بلدان العالم الثرية من حيث انتشار العولمة، حيث ارتفع إجمالي تجارة الولايات المتحدة – وهو مجموع الصادرات والواردات – إلى نحو 31 في المائة من الناتج الاقتصادي الإجمالي في عام 2008، وفقا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وعلى النقيض، وصل هذا الرقم في كندا إلى 69 في المائة من الناتج الاقتصادي الإجمالي في نفس العام. وفي عام 2008، مثلت الواردات نحو 17 في المائة فقط من حجم السوق المحلية في الولايات المتحدة، وهي النسبة الأقل بين الدول الصناعية الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، حيث وصلت هذه النسبة في ألمانيا 44 في المائة. ولكننا تمكنا، في بعض الحالات، من جني كثير من المكاسب العظيمة من هذا العالم المترابط، حيث ارتفع نصيب الفرد من الدخل في الولايات المتحدة بنسبة 71 في المائة خلال الأعوام الـ30 الماضية، بعد إجراء بعض التعديلات المتعلقة بالتضخم، مما يضعنا في المركز الـ16 في قائمة البلدان الـ29 المتقدمة، وفقا لإحصائيات صندوق النقد الدولي خلال هذه الفترة. هناك القليل فقط من البلدان – مثل سنغافورة والنرويج ولكسمبورج وهونغ كونغ – التي يزيد فيها نصيب الفرد من الدخل عن الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من كل الثروات التي تمكنها من تجميعها، تؤكد إحصائيات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن دخول المواطنين الأميركيين في سن العمل الذين ينتمون إلى الطبقة الوسطى، قد ارتفعت بصورة قليلة منذ منتصف حقبة الثمانينات من القرن العشرين مقارنة بكافة البلدان المتقدمة الأخرى. تعاني الولايات المتحدة من بعض أسوأ الآفات الاجتماعية المعروفة في البلدان الصناعية، وهو الأمر الذي لا يثير كثيرا من الدهشة.
ولا يقتصر الأمر فقط على كون مشكلة عدم المساواة في الدخل في الولايات المتحدة الأميركية هي الأسوأ بين كافة البلدان الصناعية، ولكن تجدر الإشارة إلى أن عدد الأطفال الأميركيين الذين يموتون قبل بلوغ سن التاسعة عشرة يتجاوز نظيره في كافة الدول الغنية الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ناهيك عن ارتفاع عدد المواطنين الذين يعانون من الفقر وزيادة مستويات السمنة في الولايات المتحدة مقارنة بهذه البلدان. وعندما تصل الفتيات الأميركيات إلى سن المراهقة، تزيد أعداد الفتيات اللاتي يحملن ويرزقن بأطفال عن نظرائهن من المراهقات في كافة البلدان الصناعية الأخرى في العالم.
وعلى الرغم من أننا نتفهم جيدا أهمية تنمية الطفولة المبكرة، إلا أن الإنفاق العام في أميركا على هذا المجال هو الأقل بين كافة البلدان المتقدمة. ومع أننا ندرك أهمية التعليم، إلا أن معدل التحاق الأطفال في سن 3 إلى 5 سنوات في برامج ما قبل المدرسة من بين المعدلات الأقل في الدول المتقدمة. وعلاوة على ذلك، يحتل المراهقون الأميركيون في عمر الـ15 المركز الـ26 بين 38 دولة في الاختبارات الدولية لمحو الأمية في مجال الرياضيات، وفقا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وعلى الرغم من كونها الدولة الأولى التي تدرك أهمية انتشار التعليم الجامعي، تراجعت الولايات المتحدة الأميركية من مركز الصدارة التي كانت تحتله إلى المراتب المتوسطة فيما يتعلق بمعدلات تخرج الطلبة من الجامعات مقارنة بنظرائها من البلدان المتقدمة.
أفرز النموذج الأميركي نظام رعاية صحية عالي التقنية، يوفر علاجات متطورة للغاية لهؤلاء الذين يستطيعون تحمل النفقات، ولكنه يعد باهظ التكلفة ويترك ملايين من المواطنين الأميركيين من دون تأمين صحي.
أما شبكة الأمان الخاصة بنا، والتي تهدف لحماية الفئات الأكثر ضعفا من ويلات العولمة، فتعتبر بحق شبكة متهالكة. السؤال الذي يطرح نفسه الآن: في أي مكان قد يفقد الشخص وظيفته في مواجهة المنافسة الصينية الرخيصة؟ إنها الولايات المتحدة الأميركية، حيث قد تفقد تأمينك الصحي أيضا، ما لم تمتلك ما يكفي من المال لشراء التأمين الخاص. فإذا كنت المعيل في أسرة تتكون من أربعة أفراد وكنت تتقاضى ما يساوي متوسط مستوى الدخل في البلاد، فلن تحصل من معونات البطالة الحكومية إلا على 52 في المائة فقط من الدخل الذي كنت تتقاضاه، بما في ذلك أية مدفوعات رعاية اجتماعية إضافية يحق لك الحصول عليها، حسبما تؤكد إحصائيات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، ولكن هذه المعونات ستنخفض إلى 37 في المائة فقط من أخر أجر كنت تتقاضاه بعد مرور عامين على بدء تلقيك لها. وفي المقابل، يحصل المواطنون في بريطانيا على 70 في المائة من أخر أجر كانوا يتقاضونه لمدة 60 شهرا بعد فقدانهم لوظائفهم، فضلا عن تحمل هيئة الخدمات الصحية الوطنية لكافة متطلباتك الصحية.
تظهر الإحصائيات التي تم إجراؤها في هذا الصدد طريقة تعاملنا مع العجز الاجتماعي: فمن بين كل 100.000 مواطن أميركي، يقبع 743 أميركيا في السجن، وهو ما يزيد على المعدلات الموجودة في سائر بلدان العالم، وفقا للمركز الدولي لدراسات السجون. تحتل رواندا المرتبة الثانية في هذه القائمة، حيث يوجد 595 من بين كل 100.000 من مواطنيها في السجون.
وبالطبع هناك أسباب متعددة ومعقدة وراء حدوث بعض الأمراض الاجتماعية، مثل البدانة وارتفاع معدل وفيات الأطفال، ولكن الإحصائيات الكئيبة تشير إلى وجود نمط مقلق. فعلى الرغم من أننا نعاني من الأمراض الاجتماعية بصورة مرتفعة للغاية، تؤكد إحصائيات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن معدل الإنفاق العام في الولايات المتحدة لمعالجة هذه الأمراض كنسبة مئوية من الاقتصاد هو الأقل مقارنة بكافة البلدان المتقدمة الأخرى.
اقترح دارون أسيموغلو، من «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا»، وجيمس روبنسون، من «جامعة هارفارد»، وتييري فيردير، من «كلية باريس للاقتصاد»، تصنيفا اقتصاديا من شأنه تقسيم العالم إلى فئتين: البلدان الحميمية، مثل الدول الاسكندينافية، حيث تقوم الحكومات القوية بإدارة أنظمة الرعاية الاجتماعية، والرأسماليات الشرسة، مثل الولايات المتحدة الأميركية، التي تبدي استعدادا كبيرا للتسامح مع المزيد من عدم المساواة لتشجيع روح المبادرة وريادة الأعمال. ربما تكون الحياة أفضل في البلدان الحميمية، ولكن العالم في حاجة ماسة لأن نتطور بنفس وتيرة قسوة الحياة في الرأسماليات الشرسة.
يؤكد هؤلاء العلماء الثلاثة أن المواطنين الأميركيين يعملون لعدد ساعات أطول من نظرائهم في الدول المتقدمة الأخرى، وهو ما يرجع إلى أن دفع نسبة بسيطة من دخولنا للضرائب قد يشجعنا على العمل لساعات أطول. ولكنهم يؤكدون أن الأمر الأهم من ذلك هو حقيقة أن الولايات المتحدة الأميركية تنتج الحصة الأكبر من الابتكارات والإبداعات التقنية بين كافة بلدان العالم، وهي الوقود الرئيسي للنمو الاقتصادي في العالم.
وفي محاولة للتوفيق بين روح المبادرة التي يتميز بها النموذج الأميركي من الرأسمالية وبين التكاليف الاجتماعية المترتبة على ذلك، يتوجب على الناخبين الأميركيين الاختيار بين ميت رومني، رجل الأعمال الذي يعرض نموذجا لتطوير الاقتصاد الأميركي من خلال تقليص حجم الدور الذي تلعبه الحكومة وجعله أكثر كفاءة، وبين الرئيس باراك أوباما، الذي يقدم نموذجا تكون فيه الحكومة مسؤولة عن مساعدة الفئات الأقل غنى.
إن هذا التصنيف الذي طوره أسيموغلو وروبنسون وفيردير يجعل من الناخبين الأميركيين مسؤولين عن التعقيدات الاجتماعية الموجودة في البلاد. وعلى الرغم من أن الاقتراح الذي ساقوه – والذي يؤكد أن تحول أميركا إلى فئة البلدان الحميمية من شأنه أن يؤدي إلى انخفاض مستوى الابتكار ومعدلات النمو حول العالم – قد تعرض لانتقادات عنيفة، إلا أنهم يقدمون رؤية واضحة للناخبين الأميركيين، مفادها أنه عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع التحديات الناجمة عن القوى العالمية العظمى، فهناك دائما خيار آخر.

التعليقات