مصر الكبرى

08:36 صباحًا EET

الانتخابات الأميركية.. من عبد الناصر إلى الأسد

في حوار تلفزيوني جرى عشية الانتخابات الأميركية عام 1968، تعمّد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مغازلة الحزب الجمهوري في أميركا، حيث قال إن المصريين كغيرهم يحترمون الشعب الأميركي، ومعجبون بنموذجه الحضاري، ولكنهم مستاءون من سياسة الرئيس ليندون جونسون (من الحزب الديمقراطي) الذي وقف إلى جوار إسرائيل في حرب 1967. مضيفا أن «مشكلة السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، أنها مبنية على عناصر غير أميركية، مثل الحسابات الانتخابية». ما من شك في أن عبد الناصر كان يقصد في حديثه هذا، ما اصطلح على تسميته لاحقا «اللوبي الصهيوني». وتظهر بعض الوثائق التي أفرج عنها فيما بعد في بعض العواصم الغربية، أن الرئيس المصري تجاهل مفاوضات السلام مع الرئيس جونسون، التي كان بإمكانها آنذاك، المساهمة في الانسحاب الإسرائيلي من شبه جزيرة سيناء، ولكن عبد الناصر فضل انتظار الانتخابات الأميركية، وما ستسفر عنه، متوهما أن الرئيس القادم سيعطيه ما لم يوفره سلفه، مما كبّد مصر خسارة استراتيجية كبيرة، وحرب استنزاف مكلفة.

في عام 1969، حين انتخب ريتشارد نيكسون رئيسا أميركيا جديدا، كتب عبد الناصر برقية تودّد لنظيره يقول فيها: «ما أتذكره منذ لقائي بك في القاهرة عام 1963، يجعلني مقتنعا بأن الثقة التي أولاها إياك الشعب الأميركي، ستخلق فرصة لها أهمية بالنسبة للوضع العالمي». من الواضح أن عبد الناصر، الذي كان يجاهر بخطاب ديماغوجي قومي، وراديكالي معاد للغرب، كان في الخفاء لا يدخر وسعا في استعطاف القادة الأميركيين. ولكن المشكلة لم تكن في محاولته التقرب من أميركا والابتعاد عن حليفه الاتحاد السوفياتي، بل لأنه كان يعتقد أن المشكلة ليست فيه، أي في سياساته الداخلية والإقليمية، بل في الخارج، وأن بوسع حدث مثل الانتخابات الأميركية أن يغير من مجرى حظه العاثر. موقف عبد الناصر هذا أضحى منهاجا سيئا، وأسس لمواقف عربية سلبية لعقود، حيث ظن – وما زال هناك من يظن من بعض الرؤساء والقادة العرب – أن المشكلة ليست في سياساتهم، ولكن في سوء سياسات الإدارات الأميركية التي عايشوها، أو يعايشونها.
ليس هذا التحليل تبرئة للسياسة الأميركية، التي لها سقطاتها الكثيرة، ولكن ثمة فرق بين الاعتراف بالخطأ، ومحاولة تحميل هذا الإخفاق للخارج.
من يراجع الوثائق التي تفرج عنها وزارة الخارجية الأميركية، أو ما تصدره المحفوظات الوطنية البريطانية من مراسلات السفراء، أو حتى تسجيلات صدام التي نشرتها جامعة كمبريدج السنة الماضية، يلاحظ أن كل رئيس عربي، يظن أنه يفهم السياسة الأميركية، ولكنه في الحقيقة، ربما يفهم بعضا من آلياتها وخطوطها، وله علاقة ببعض سياسييها. بيد أن في الأمر وهما أو قل «يوتوبيا» يخلقها هذا المسؤول – أو مستشاروه – في الذهن، بعيدا عن طبيعة السياسة الداخلية لأميركا.
بعيد الانتخابات الأميركية في عام 2008، نقل عن عبد الرحمن شلقم – وزير خارجية ليبيا السابق – استياء العقيد القذافي من الإدارة الأميركية، لأنها لم تكافئه على التخلي عن نشاطاته الإرهابية، أو تخليه عن مشروعه النووي السري، قائلا لإدارة أوباما: «لقد قدمنا بعض المعدات، وبعض أجهزة الطرد المركزي، على سبيل المثال لأميركا، لكن ماذا أعطيتمونا؟». وينقل مسؤول آخر عن القذافي قوله: «عندما كنتم أعداءنا، لم نكن نهتم، لكن الآن، من المفترض أن تكونوا أصدقاء لنا. نحن مندهشون».
كان القذافي يعتقد مهووسا، أن المشكلة ليست فيه، بل في الأميركيين. هذا الحديث ليس انتقائيا، بل هو مرتبط بالجدل الدائر حول الانتخابات الرئاسية الأميركية، حيث اتجه أول من أمس الأميركيون للإدلاء بأصواتهم، والتي لم تظهر، حتى كتابة هذا المقال، نتائجها بعد، ولكن كما كان الحال عليه أيام عبد الناصر، هناك بعض من التعويل في منطقة الشرق الأوسط على نتائج الانتخابات الراهنة، حيث يجادل البعض على أن فوز الرئيس الحالي باراك أوباما بولاية ثانية، سيجعله أكثر قدرة على مواجهة مسائل ملحة، مثل دعم المتمردين السوريين ضد نظام الرئيس الأسد المتورط في جرائم حرب، والتشدد ضد مساعي طهران النووية، أو حتى استعادة عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ولكن هناك من يرى أن فوز المرشح الجمهوري ميت رومني هو أفضل للمنطقة، لأن أوباما لا يملك استراتيجية واضحة وحازمة، على الأقل بالنسبة لحلفاء أميركا، بل إن تحمسه لرحيل الرئيس المصري السابق حسني مبارك عن السلطة، والترحيب بما يسمى «الربيع العربي» الذي أدى بالضرورة إلى انتخاب الإسلاميين، يعكسان مدى جهله أو تجاهله – كما يقول البعض – لظروف المنطقة وطبيعتها. نقاد إدارة الرئيس أوباما يرون أنه أظهر ترددا كبيرا في الشأن السوري، مما قاد – عمليا – إلى حرب أهلية مدعومة من القوى الإقليمية والدولية – لا سيما إيران والروس – وإلى ازدياد نشاط الحرس الثوري الإيراني في دول الخليج، وبروز حركة الإخوان – والجماعات المماثلة لها – كتحد لسياسة الاعتدال في المنطقة. أما فيما يخص المرشح الجمهوري ميت رومني، فهناك حالة من الانقسام، حيث يرى البعض أنه لا يملك التجربة، علاوة على محدودية ثقافته، وليست لديه آراء ثابتة أو بالكاد مختلفة عن منافسه، فيما يتعلق بالشرق الأوسط، فيما يرى البعض أن كون رومني من تيار الوسط في الحزب الجمهوري، فهذا يعد باستعادة نموذج الرئيس رونالد ريغان، أي دعم حلفاء أميركا، والتركيز على القوى التي تهدد الأمن الإقليمي. برأيي، إن التعويل على الانتخابات الأميركية غير مجد، ليس لأن أميركا غير مهمة كقوة دولية، بل لأن دول الاعتدال في المنطقة عليها أن تقود السياسات الإقليمية لتحقيق مصالحها، لا أن تترقب نتائج الانتخابات في بلد أجنبي. خذ على سبيل المثال الموضوع السوري، ذهبت دول مثل تركيا وبعض دول الخليج إلى حد كبير في تحدي ممارسات النظام السوري بحق مواطنيه، وتم الحديث عن تمويل المنشقين العسكريين، وإقامة حكومة انتقالية، ولكن منذ ذلك الحين شهدنا ترددا في المواقف، حيث لم يتم توفير السلاح النوعي للمتمردين السوريين، ولم تنجح حتى الآن الجهود في جمع كلمة المعارضة السورية – نتائج قمة الدوحة لم تظهر حتى كتابة المقال – بعض المعلقين حملوا الإدارة الأميركية، التي ترددت في توفير السلاح، مستشهدين بمقتل السفير الأميركي في ليبيا، رغم أن هذا التردد سبق مقتل السفير بعام كامل. أيضا، هناك من استشهد بموقف الإدارة الرافض للمجلس الوطني السوري مؤخرا، كدليل على عدم جدية إدارة أوباما في إسقاط نظام الأسد. مشكلة تركيا ودول الخليج أنها متكلة على الإدارة الأميركية، ولم تخطط مسبقا لتداعيات قرارها أو توفر الوسائل والتجهيزات اللازمة، ليس فقط لإسقاط نظام سيئ مثل نظام الأسد، بل لبناء دولة مؤسسات ديمقراطية لتحل مكان هذا النظام المتطرف. إن مجيء رومني أو بقاء أوباما، قد لا يغيران من الظروف الواقعية شيئا. ليس هذا تقليلا من دور أميركا وأهميتها، ولكن كان على الدول التي تسعى لمواجهة تهديدات المحور السوري/ الإيراني، أن تتخذ خطوات عملية وشجاعة لإفشال تلك المخططات، لا أن تعتمد على التعاطف الغربي الإنساني – المحتمل – مع الكارثة الإنسانية في سوريا.
الدول غالبا ما تتحرك لمصالحها، وتركيا ودول الخليج كان عليها أن تبني تحالفا دوليا مبنيا على إثبات مصلحة المجتمع الدولي في التدخل، لإسقاط نظام ينتهج دعم الإرهاب، وسياسة الترويع بحق مواطنيه، وأن تقوم قبل غيرها بتهيئة السوريين لمرحلة انتقالية. في لقاء جمع بين الرئيس بشار الأسد وجون كيري رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ (فبراير/ شباط 2009)، أبلغ الأسد ضيفه بأنه كان يتطلع لانتخاب الرئيس أوباما، لخطابه العالمي المتسامح، ولعدم هجومه على سوريا، وفي مقابل ذلك وعده ضيفه بأن الرئيس أوباما سيعمل على سحب جنوده من العراق لطمأنة سوريا. وفيما بدا أنه اعتداد بالذات كبير، لما رآه ضعفا من قبل الرئيس الأميركي الجديد، رد الأسد قائلا: «ليس من أهدافنا أن يتم إهانة الولايات المتحدة». لا بد أن الأسد اليوم يدرك ما أدركه عبد الناصر متأخرا، أن الحل لا يأتي – بالضرورة – عن طريق الانتخابات الأميركية، بل في تغيير السلوك السياسي للنظام نفسه.

التعليقات