كتاب 11

12:38 مساءً EET

ما الذي يخدش الحياء؟

ما الذي يخدش الحياء العام؟ سؤال كان يبدو عادياً وطبيعياً قبل سنوات، أي قبل أن تضيق الدائرة علينا، ونصبح نلفّ داخل إطار البحث عن الكلمة الواحدة ونفند العبارات لنستوعب هذا التحلّل الذي أصاب مفاهيمنا . نعم، وكأننا أصبنا بمرض تقلّص الكلمات، وتقلّص المعاني، وتقلّص الاستيعاب .

المهم أن ذلك السؤال لم يعد ينفع اليوم وهو منساب بتلك الكلمات المتسلسلة . إنما عليك أن تسأل: ما “الحياء”؟ ما هو الشيء “العام”؟ وماذا يعني “يخدش”؟

إذا كان الحياء هو نفسه فعل الخجل الذي قد تصاب به حين تجد نفسك أمام موقف يحرجك، يمس مشاعرك، أو كلام يجرح قلبك، ومشهد يجبر نظرك على الانحناء أو رأسك على الالتفات في الاتجاه المعاكس . . وإذا كان من مرادفاته: “عيب” وهي أول كلمة يسمعها ويحفظها ويرددها كل طفل عربي منذ ولادته، ثم يتحرر من تفاصيلها الصغيرة الرجل بينما تتمسك بها المرأة طول الوقت لاعتبارات “تربوية اجتماعية” . . فهل مازلت تجد هذا “الحياء” متوفراً بكثرة؟ وهل هذا الفعل معترف به اليوم في قاموس الفضائيات ويضعه معدو البرامج أمامهم وهم “يقيسون” ذائقة الجمهور ومتطلباته وما يرغب في مشاهدته ضمن خريطة إعداد البرامج؟

التلفزيون هو هذا الشيء العام المفتوح على كل البيوت، الموصول عبر الهواء بين كل أجناس البشر، الذي يستقبل ناساً ويتركهم يتحدثون ويقدمون ما يشاؤون لناس آخرين . . أين هو من فعل الحياء اليوم؟ وأين “الرأي العام” مما يقدمه التلفزيون من أشياء بلا حياء؟

لو أن هذا “الحياء” له أي وجود على بعض القنوات، هل كان أمثال فراس الحمزاوي سيجدون ولو خرم إبرة يطلون من خلاله على الناس ليتباهوا بأنفسهم وليطلقوا تفاهاتهم وقلة حيائهم وما يسمونه “فناً” وغناء؟ هل كان لأمثال هؤلاء مكان يستقبلهم ويفرد لهم مساحة ليقولوا ما يشاؤون ويغنوا بكل وقاحة وإباحة وبذاءة؟

لو أن “الحياء” مازال حياً يرزق في أبجديات الإعلام المرئي، ومازال يتربع على عرش القيم والبنود التي كان ينص عليها ذلك القانون القديم، والذي تشهد عليه قنوات أيام زمان، لكان الحمزاوي مجرد صوت ضل طريقه وانطفأ قبل أن يصل إلى آذان وعيون المشاهدين . لم يكن ليجد طريقه إلى الإذاعة أيضاً، تلك التي كانت “كابوس الرعب” الذي يصيب الموهوبين والهواة الحقيقيين فيرتعشون ويترددون ألف مرة قبل طرق بابه، وهؤلاء “الهواة” المرعوبون كانوا من خامة عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وصباح وفيروز وشادية ونجاة .

لو كان “الحياء” حياً، لما تمكنت مذيعة مجتهدة مثل ريما كركي، وبأول إطلالة لها على قناة “الجديد” حيث جاءت لتحيي برنامج “للنشر” بعدما غادره طوني خليفة، لما تمكنت من خلط كل الأوراق والقفز من مواضيع مصيرية مهمة وخطيرة مثل الحديث عن “داعش” وقطع الرؤوس، وحكاية فتاة معوّقة تمّ استغلالها، واستغلال صور المشاهير عبر الانترنت والهواتف . . لتقدم الحمزاوي في فقرة مقززة وهو “يغني” لزوجته التي تركته ورحلت . لن نذكر اسم أغنيته، التي يتباهى بأنه كتبها بنفسه من واقع حياته، لأننا ما زلنا نؤمن بالحياء . والأنكى أنه يواصل ويتحدث عن أغنيته الثانية “أصابع رجليكي” .

نقول عنهم “فطريات”، لكن أما آن الأوان لاقتلاعها كي ينبت الزهر والقمح؟ ونقول دعونا لا نتحدث عنهم كي لا نزيدهم شهرة، لكن أي القرارين أكثر صواباً؟ الصمت أم المواجهة كي نوقفهم ونعبر عن اشمئزازنا منهم؟ أفلا يتمادون وهم يحسبون أنهم أسياد “الساحات” طالما أن هناك من يشرع لهم الأبواب ويتيح لهم الظهور على الشاشة والتحدث عبر أثير الإذاعات؟ وهناك من يسمح لهم بتسجيل أغنياتهم وتوزيعها وهناك من يعرضها ويبثها؟

كل من يريد أن يغني يجد لنفسه “ملحناً” واستديو يسجل فيه أغنيته ويخرج إلى الإعلام يصرخ هاأنذا أولد “فناناً” . فإما أن “العام” والمقصود به الجمهور راض عما يحصل، وأصبح مستسلماً لإرادة الشاشة وكل ما تقدمه له مقبول و”بيعدي” . وإما أنه مجروح ومنزعج ومتضرر . وهنا نصل إلى كلمة “يخدش”، تلك التي لا تحتاج إلى تأويل وتفسير، وكل معانيها تصب في خانة “الجرح والإيذاء”، وهناك طرف متضرر وطرف يطلق سهامه ولا يبالي . . هل مازال لها أي معنى أو أي وجود؟

الحمزاوي الذي لا نعرف من نصّبه مغنياً ولا مَن قبل أن يتبنى أغانيه ويروّج له، ولا نفهم كيف يمكن أن يصل مستوى الكلام في التأليف إلى هذا الانحطاط، ليس الوحيد من تلك الفئة التي جاءت “تنشّذ” وتفرض نفسها على عالم الغناء، وللأسف، كلما اعتقدنا أننا وصلنا إلى ذروة الإسفاف، يأتي من يصفعنا بما هو أكثر سوقية وانحداراً، فننظر إلى الخلف قليلاً لنجد أننا كنا في نعيم مع أغاني شعبان عبد الرحيم وسعد الصغير، ولتبدو الأغاني الأقدم مثل “السح دح امبو” والتي كنا نعتبرها خفيفة “طربية” بمعايير اليوم . وهي على الأقل تحترم السمع والفهم والأخلاق . فهل هناك بعد ما لا يجبرنا على السؤال: “ما الذي لا يخدش الحياء العام؟”

التعليقات