كتاب 11

08:38 صباحًا EET

شبح جنين ثورة مات في القرن العشرين

الظلم وحده لا يكفي ولا الخلاف ولا يكفي الغضب بل ولا الصدام المسلح كما لا يكفي مجرد الخروج الى الشوارع بالملايين لكي يولد لشعب ثورة.

الثورة ظرف تاريخي معقد له زخم كبير وله بنية تحتية وأسباب تاريخية وأيدلوجيات حاكمة وخادمة وأثمان باهظة ويستتبعه بالضرورة الحتمية تغيرات جوهرية عميقة الأثر بالغة القدرة في البنية الاجتماعية والتكتلات السياسية والمعايير والقانون والفن والأخلاقيات والأهداف القومية والخاصة واللغة والدين وخرائط السكان، الثورة لها آباء معلومون وأبناء شرعيون وأقرباء وأنصار وأعداء ووجوه وعقول وقواعد وأصول وتقاليد، مقدمات تأتي قبلها في وضح النهار واشراقات تأتي بعدها تحيل الليل التالي الى نهار اضافي، للثورة وقود وثمن وأرض وبذور وسماد وعلف وقبل هذا كله وبعده الثورة لابد لها من مناسبة منطقية كبيرة وظاهرة وقوية تؤججها وتشعلها، عيد الشرطة مناسبة لا تكفي لصنع ثورة وكذلك حماقة محمد مرسي واخوانه فليس من السهل أن يجتمع شعب متعدد الثقافات والتوجهات والعلاقات والانتماءات على هدف واحد ومستقبل مشترك قد يدمر تحت قدميه أشياءً تخص فريقا دون آخر أو يرفع فريقا على حساب الآخرين.

خرج المصريون للشوارع في يناير 2011 بالملايين وكذلك فعلوا في 30 يونيو 2013 وقبلها في 1977 وفي 1968 لكن كل هذه الخروجات في تقديري ليست ثورات بل ولا تقاربها، لأنها جميعا لا تمتلك الحد الأدنى من الشرعية التاريخية أو وجاهة السبب القومي تلك الأشياء التي يضعها التاريخ في طرق الأمم ليخلق حراكا شعبيا مفعما بغضب طويل النفس يليق بالتحديات التي تفرض نفسها فرضا جبريا كنتيجة مباشرة ومنطقية لحجم الحدث وفداحة الخسارة بما يؤدي الى نشأة خطا تاريخيا بديلا يصنع مستقبلا لا يملك خيار الخضوع لمعادلات الماضي توازناته ورؤاه، كما أنها لا تستند الى أيدولوجيات وأفكار جامعة تستطيع الحصول على تكتل دائم لا يتأثر بغياب الظلم أو حضوره وتستطيع أن تصنع أهدافا استيراتيجية وتكتيكية للمناضلين تحت رايتها وأن ترسم لهم خرائط طريق وقواعد اتفاق مع الحلفاء والفرقاء.

لو أن المصريين كانوا قد ثاروا على عبدالناصر في نهاية الستينات ثورة أطاحت به وبنظامه وبالضباط الأحرار لربما بدت لي هذه الثورة الآن منطقية ومقبوله أكثر من 2011 ولتغير الكثير في مصر وحولها ولكنا تحتفل الآن بثورة 67 المجيدة بدلا من نكسة 67 المخزية، سؤال يفرض نفسه علي فرضا لماذا لم يثر المصريون على نظام عبدالناصر في أعقاب هزيمة يونيو 1967 ؟

كانت الهزيمة العسكرية المذلة مناسبة تاريخية هامة ومنعطفا منطقيا لتغيير شامل وضخم وكبير في المجتمع رأسيا وأفقيا، كانت الثورة في ذلك الوقت واجبا وطنيا وكانت لازمة وما كان لها ألا تحدث وما كان لها أن تفشل في 1968 عندما غضبت جموع الشعب وخرجت لميدان التحرير تطالب برؤوس قادة القوات الجوية لكنها فشلت واستطاع عبدالناصر أن يسحقها ثم استطاع أن يخدعها ويستوعبها في جيب الساعة الصغير داخل صيديري بذلته المدنية.

تاريخ البشر يتحدث عن الثورات حكايات لا علاقة لها بما حدث في 2011 أو 2013، ثورة الروس البلشفية وثورة الألمان 4 نوفمبر الثورة الفرنسية وثورة الأمريكيين حتى ثورة الانجليز البيضاء الأرستقراطية التي قلصت نفوذ الملك وجعلته مثل فازات الزهور وأطقم الشاي الفاخرة بدت جميعها بأنساق ومكونات متشابهة تفارق كثيرا بناء شبه الثورة المصرية في خضم الربيع العربي. كل الثورات كانت مرحلة وسطى بين مراحل سابقة ومراحل لاحقة وكان للظلم وسوء توزيع الثروة والقهر والفجوات الطبيقة والعنصرية أثرا مشاركا وداعما لخط فكري نشأ في حضن الظروف المفجرة للثورة أعني أن الظرف التاريخي بكل تناقضاته ومفارقاته ينشئ أو يدعم نمو فكرة جديدة تقدم الحل النظري للتناقض المجتمعي والظرف التاريخي المرفوض ثم يعملان معا في خطوات تبادليه حتى يلقي التاريخ كلمته الأخيرة بحدث فارق مميز لتفجير الثورة أي غضب شعبي يتبعه رفض مبين ، موقف شعبي عنيد يتبعه تغيير في أنظمة الحكم وتراتبيات المجتمع وخرائط توزيع الثروات، ولا يحدث هذا التغيير بواسطة الوجوه القديمة المستقرة والتي انفجرت العشوب ضدها كما لا يحدث التغيير استنادا الى مبادئها أو وسائلها بل تتغير الوجوه والوسائل تغيرات جذرية جوهرية بصرف النظر عما قد يلحق بالنظم الجديدة من اخفاقات أو نجاحات هذا ما حدث في فرنسا وهذا ما أحدثته الماركسية القهر الاجتماعي والحرب العالمية الأولى في روسيا وألمانيا والنمسا

دعوني اسأل عن السبب المنطقي الذي دعا الملايين للخروج الى ميدان التحرير مطالبين بسقوط مبارك ودولة الفساد بعد ثلاثين عاما من التعايش السلمي والانتفاع والتوافق مع دولة مبارك (جمهورية قادة 6 أكتوبر) توافقا وصل الى درجة تبادل الطبع والتشارك في قيم الفساد والدين والمصالح ؟

ما هو السبب الذي فجر ثورة يناير 2011 ؟

ما الذي حدث فدفع بالناس الى الطرقات والميادين؟

من الذي نظر لهذه الثورة ودبج أدبياتها قصيرة التيلة مثل ثلاثية العيش والحرية والعدالة الاجتماعية؟

من الذي حافظ على هذه الجموع الغفيرة مدججة في الميدان أياما طويلة ومن الذي صرفهم دون تحقيق أهداف “شبه الثورة”؟

من الذي دجج لجمعة الغضب وأي غضب مقنع هذا الذي يحدث بعد ثلاثين عاما من الظلم الزعاف ويحدث هكذا فجأة بلا مقدمات اللهم الا الغيرة من تونس ان كان ذلك يصلح سببا؟

ثم أسأل عن الفكرة التي جمعت المصريين في غضباتهم، أين هذه الفكرة ؟ كيف تفاعل الشعب مع أزمته المركبة؟ ما الذي أفرزته سنوات الأزمة في وعي الشعب من أفكار ورؤى ومبادئ وما الذي تبلور منها في شكل أكثر تمايزا ووضوحا وكان له الغلبة؟ ما هو الطرح المنهجي الذي يملكه المصريين فيعطي لغضبهم زخم الثورة ؟ أين المراحل السابقة للغضب والمراحل التالية له؟

الغناء والشعر الصلاة في الميادين وقت الغضب واعلان العصيان لا يصنعون مناهجا وأفكارا ولا يقيمون عودا لنظام يقدر على الحكم وادارة دفة البلاد
ثم اسأل في سياق أعم قليلا مما سبق لماذا يكرر المصريون غضباتهم المدوية ولا يصنعون ثورات أبد؟ ان هذا الشعب لديه عددا لا بأس من هذه الغضبات المدوية في تاريخه القديم والحديث لم يؤد أي منها الى ثورة ولم تحدث تغييرات حقيقية في مجتمعات مصر، هل المصريون بطبعهم شعب اصلاحي لا يمكن له أن يعتنق النهج الثوري في التطور والتغيير؟ أم هو شعب كسول وجبان؟ أم هو احساس جمعي بالمسؤوليه “مسؤولية الفلاحين” تجاه الأرض والأهل والمواشي تجعل الفقد أمرا غير مطروح تحت أي ظرف داخلي مهما يكن؟

اليوم وبعد سنوات من المراقبة والاستماع والتأمل أتشكك في أن ما حدث في 2011 وما حدث في 2013 ثورات حتى رغم اكتمال مشاهد الثورات وحيثياتها في المناسبتين، كان موعد الثورة المصرية الطبيعي هو الربع الأخير من عام 1967 وليس الشهر الأول من 2011 .

كان عام 1967 يحمل في بطنه ثورة لم تحدث أو ربما حدثت متأخرة في عام 1968 وولدت جنينا ميتا، مات اثر حمل طال أكثر مما ينبغي، لعل تأخر ولادة الثورة في 1967 جاء على اثر حقنة مخدرة أعطاها عبدالناصر للشعب في الوقت المناسب بحزمة اجراءات صادمة ومنعشة لخوف مزيف ورجاء أكثر زيفا واحساس بسؤولية مزعومة للمواطنين عن أمن ومستقبل مصر وسلامتها من سوء كأنها دولة عرجاء معاقة بلا جيش وبلا حكومة، فقزم مطالب الشعب وخفض سقف طموحاته وجعله يبدو أمام نفسه مهزوما عنينا أبترا لا يليق به ان يطالب بما تطالب به الشعوب الكاملة، ليس قبل أن ينتصر على عدوه على الأقل.

في داخل حزمة اجراءات طارئة تنحى عبدالناصر تلفزيونيا ثم أعاد نفسه بواسطة عمال مصانع حلوان وهيئة النقل العام والاتحاد الاشتراكي في الشوارع، حمل عبدالحكيم عامر معظم التركة العفنة واغتاله أو انتحر الأخير، أعاد تنظيم صفوف شلة الضباط الأحرار فأخفى وجوها وأعاد وجوها أخرى للصدارة، باغت الناس في بيوتهم بكل أنواع المآزق والأزمات لا هي بالصغيرة التي يمكن التغاضي عنها ولا بالكبيرة التي قد تحيل الضيق الى غضب، قدم قادة من سلاح الجو الكسير الظهر والعين لمحاكمات هزلية استمرت عاما أو يزيد من أجل كسب الوقت وابتداع أسباب اضافية للتعاطف معه، ثم أعاد تسمية الأشياء والأحداث.

أعاد صياغة الحيثيات وابتداع أسباب للهزيمة تطوف في مجملها حول مؤامرات الامبريالية ودول الاستعمار العظمى ومكائد الصهيونية الخبيثة ضد شخصه الذي اختزل مصر وانحياز العملاق الأمريكي الى جانب اسرائيل وهي أسباب بعضها حقيقي وبعضها مبالغ فيه لكنها أخذت الناس الى مجاهل المستحيل والخيال العلمي الذي يبرئ ساحته ويبرد القلوب عليه كأن مكر الأعداء بدع غريب لم يحدث من قبل أو لعلهم كانوا مسؤولين عن حماية ظهره ليتمكن من دحرهم بسهولة !

أعاد عبدالناصر ابتكار الشعارات وترتيب الصفوف ففتح ثغرة للخطاب الديني في الحائط الاشتراكي المانع المنيع لكنه كان في معظمه خطابا دينيا جالدا للذات مهينا مستغيثا بالخرافات والدجل برر الهزيمة بوجود الزناة وتاركي الصلاة.

ألغى وجود كل الأصوات أمام صوت المعركة واستمات في المزايدة على الشعب والرأي العام والجيش بل وحلفاءه وأحيانا أعداءه مستثمرا حرب الاستنزاف التي فرضت نفسها عليه كصمام أمان منقذ ينفس الضغط الشعبي في سياق دراما حربية تعج بالبطولات والمآسي والتضحيات وعلاقات عشق وهمية مع تراب مصر وحوائطها، عواطف ملتهبه مبالغ فيها لا تنتج الا مزيدا من تهوين شأن الانسان المصري وثمنه وحياته واستقراره وتفتح الأبواب على مصارعها للمزيد من الضحايا والآلام والخسائر في سبيل الرمل والحصى وروث البهائم في زرائب الفلاحين “أي كلام في أي خلط وعك”، استثمرها حتى لا يبدو كمن توقف عن النضال أو تراجع عن الحق المسلوب وحتى يعيد توجيه الغضب بعيدا عنه وعن نظامة فخلق صنما جديدا ملهبا للحماسة لافتا لكل الأنظار اسمه “الجبهة”.

هذه الاجراءات وغيرها أعادت تشكيل الغضب الشعبي والوعي العام بالقدر الذي كان كافيا بالكاد لخروج ناصر من مأزق الثورة.

بالتأكيد لم تكن حزمة الاجراءات هي السبب الوحيد وراء تشتيت الانتباه القومي لكنها كانت فاعلة مؤثرة وربما كانت على رأس القائمة. المهم أنه في 1967 ضاعت فرصة الشعب المصري في القيام بثورة حقيقية خاصة أنه كان يمتلك في تلك الحقبة ثقافة سياسية وخبرات وطنية وزخما تعبويا كبيرا لقرب عهده ببقايا الاحتلال الانجليزي ورموز النضال الوطني القدامى ورحيل الملك وانشاء أول جمهورية مصرية وحرب 1956 وكان غارقا حتى أذنيه في أحلام التقدم والرفاهة والسد العالي وأحواض الاشتراكية وبساتينها وكذلك زعامته وزعامة زعيمه عبدالناصر غير المسبوقة في التاريخ لمسيرة القومية العربية والحلم العربي والنضال العالمي ضد الاستعمار والامبريالية الأمريكية ، بعد كل هذا التمهيد وكل هذه البنية التحتية وفي ظل كارثة صادمة مدوية كان لابد للشعب المصري أن يسحق عبدالناصر بعد هزيمة يونيو لكن الغريب أن ذلك لم يحدث بل أن عبدالناصر فر بفعلته ومات محزونا عليه مبكيا في كل حدب وصوب على ارض المحروسة.

لماذا لم يثر المصريون في أعقاب هزيمة يونيو 1967 ؟ سؤال مهم وحساس ولابد أن له اجابة وهذه الاجابة أكثر أهمية من السؤال وهي تختبئ مكوناتها داخل كهوف عديدة وأدراج وعلب بعضها في الشارع المصري وبعضها في المدارس والبيوت وبعضها في أروقة الحكم والقصور الرئاسية وبعضها داخل المساجد وربما الكنائس أيضا، في النهاية تاهت ثورة حقيقية كان لابد لها أن تولد في 1967 وبعد عقود ولدت “شبه ثورة” غريبة تتكون من فصلين، شبه ثورة غير مبررة وما كان لها أن تكون .

ورغم ترحابي بها وترحاب الجميع في كل الأطياف صدقا أو من رواء قلوبهم واعتقادهم الراسخ في أنها ثورة فانا أرى ليست ثورة وان التاريخ مازال يسير في طريقه الذي اعتاده وأن التخلف مازال قويا عفيا وان المصريين ما صلبوه ولا قتلوه ولكن شبه لهم.

التعليقات