مصر الكبرى

10:41 صباحًا EET

تخليص الإبريز … فى اختيار الرئيز !

أتفهم تماما حيرة النسبة الكبيرة من المصريين الذين لم يستقروا بعد على مرشح رئاسى محدد، وهو مامررت به شخصيا. وأنا هنا لا أريد أن أفرض على القارئ اختيارا محددا توصلت إليه. فالأهم من اسم المرشح هو المنهج أو المعايير التى يتم الاستناد إليها فى عملية الاختيار. ودون الدخول فى تفاصيل نظرية كثيرة، أقول أولا إننى من مدرسة الواقعية فى الاختيار. فكما ذكر وزير الدفاع الأمريكى الأسبق دونالد رمسفيلد يوما: إنك تحارب بالجيش الذى لديك وليس الجيش الذى تتمناه، فإن علينا أيضا الاختيار من قائمة المرشحين المتاحين، وليس المرشح الذى كنا نتمناه فى خيالنا.

وقد حسمت أمرى منذ البداية باستبعاد اثنين من المرشحين البارزين هما أحمد شفيق ومحمد المرسى. والسبب فى ذلك ليس شخصيا ولا أيديولوجيا. فأنا لست ممن يستعذبون التهجم الدائم على الإخوان أو حزبهم. وأشعر بالأسف أن أداءهم  السياسى بعد الثورة لم يكن على المستوى المطلوب. فهم القوة الأكبر والأكثر تنظيما على الساحة السياسية وفشلهم سينعكس سلبا على البلاد بأكملها، وعلى التطور والنضج المأمول لأنصار الإسلام السياسى فى مصر والمنطقة. الأمر نفسه ينطبق على أحمد شفيق. فأنا لست ضد كل من مر يوما أمام مقر الحزب الوطنى أو حتى ارتبط به مالم يكن لدينا مايدينه بشكل مباشر. وأى عملية تحول سياسى لايمكن أن تنجح فى ظل استعداء ثلاثة ملايين من أعضاء هذا الحزب المنحل، رغم تسليمى بأنه كان ملجأ عدد كبير من الفاسدين والنتفعين..
لكن رفضى لمرسى وشفيق يأتى من كونهما يعبران عن أقصى حالات الاستقطاب فى الشارع المصرى الآن، وفوز أحدهما بقدر ماسيمثل انتصارا قويا لمؤيديه، فهو سيكون هزيمة قاسية للتيارات الأخرى المنافسة لن يقبلوها بسهولة فى مجتمع لم يتعود بعد على أساليب الممارسة الديمقراطية بما فيها من هزائم وانتصارات. ولو كانت المصلحة العامة بالفعل تهم الاثنين لانسحبا فورا من المنافسة. وإذا كان أنصار الوطنى المنحل ينتظرون بشغف فوز شفيق، فهذا أمر مفهوم لاستعادة بعض ماخسروه بسبب الثورة، كما أنهم متهمون دائما بتقديم مصالحهم الشخصية على المصلحة العامة. لكنى مندهش من إصرار الإخوان على الإبقاء على مرسى، فهم خسروا الكثير من مصداقيتهم بترشيحه ليس فقط داخليا ولكن حتى إقليميا ودوليا. فهناك مقاومة كبيرة من أنصار الأسد فى سوريا للثورة الشعبية هناك خاصة من قبل الأقليات الدينية والمذهبية لما رأته من أصرار الإخوان والتيارات الإسلامية عموما على الهيمنة فى الدول التى نجحت فيها الثورات وبخاصة مصر. كما أن كثيرا من الأصوات الأمريكية القبيحة التى خفتت نسبيا بعد نجاح أوباما فى الانتخابات الرئاسية، عادت لتطفو على السطح من جديد، وظهر أحدهم مؤخرا على شبكة فوكس نيوز ليؤكد أن "الإخوان" هم التهديد الإرهابى الجديد ضد الولايات المتحدة والغرب، وأتوقع ازدياد هذه الأصوات فى المستقبل، خاصة لو نجح رئيس إخوانى. وقد كان سلوك الإخوان هو العامل الأساسى لحشد التأييد لمرشحى "الفلول" كما يطلق عليهم. فلولا ترشيح الشاطر ماظهر عمر سليمان. ولولا مرسى ماحظى شفيق بتأييد حقيقى. فأغلب من يتجهون إليه الآن لايفعلون ذلك حبا فيه أو حنينا إلى عهد مبارك، ولكن نكاية فى الإخوان، وتخوفا من هيمنتهم الكاملة، خاصة فى ظل أدائهم الذى لايوحى بالثقة خلال الأشهر الماضية.
فمؤيدو شفيق منهم نسبة من المصريين البسطاء الذين أزعجهم أما هيمنة الإسلاميين، أو الانفلات الأمنى الواضح بعد الثورة. وانسحاب مرسى -وهو غير وارد الآن- كان سيساعد فى تخفيف قلق الفئة الأولى. أما المجوعة الثانية فإننى مع احترامى لخبرات شفيق العسكرية أتساءل: هل فوزه سيعيد الاستقرار الأمنى أم سيحول مصر إلى كرة من اللهب ويدخل بنا مرحلة خطيرة متفجرة؟. هل هذا هو الهدوء والاستقرار الذى نريده ونأمله جميعا؟ وقد كانت تهديدات شفيق باللجوء إلى الجيش وتكرار بروفة العباسية غير موفقة، لأنها تضع الجيش فى مواجهة الناس وتؤكد الشكوك  بأن المجلس العسكرى يقف وراءه. ومن هنا فإن أمل البعض فى عودة الأمن والاستقرار باختيار شفيق ربما يكون أقرب إلى السراب، فهو أكثر المرشحين إثارة للقلق من حدوث انفلات أمنى وسياسى شامل، وأرجو أن يكون ذلك فى حساب القوى المؤيدة له. إننى لاأنكر على البعض حبهم لشفيق، ولن أنساق فى الاتهامات الموجهة للرجل مادام لايوجد دليل عليها، والرجل بدون شك حقق بعض النجاحات فى مناصبه السابقة، ولكن ماقيمة كل ذلك فى مواجهة المخاطر المحتملة؟ إننا يجب أن نزن المميزات والعيوب فى كل مرشح قبل اتخاذ القرار النهائى، واعتقادى أن الكفة السلبية هى الأكثر ثقلا بالنسبة لكل من مرسى وشفيق.
أنتقل فى عملية الفرز أو التصفية إلى كل من عبد المنعم أبو الفتوح وحمدين صباحى. وأنا أضعهما معا لأنهما فى اعتقادى "توأمان" سياسيان، حتى مع التباين الأيديولوجى بينهما.
ومواقفهما تكاد تكون متطابقة بشأن النظام السابق وطموحهما لتحقيق أهداف ثورة يناير، رغم أن أحدهما يأتى من خلفية إسلامية معتدلة، والآخر من خلفية ناصرية ويسارية. وأقولها صريحة أننى أكن الكثير من الاحترام لهما على المستوى الشخصى، وكنت أميل لتأييد أحدهما منذ البداية كترجمة لحماسى الشديد للثورة. لكنى انزعجت بشدة من اللغة التى يستخدمانها فى الشئون الخارجية. فالحديث عن العداء الصريح "للكيان الصهيونى" يمثل لى جرس إنذار لما يمكن أن يحدث  فى المنطقة فى حالة فوز أحدهما. صحيح أنهما يؤكدان على عدم رغبتهما فى الدخول فى حرب مع إسرائيل، ولكن من قال إن إسرائيل ستقبل بمواقف معادية منها ولن تبادر هى بعمل عسكرى متحججة بمواقف عنترية للرئيس الجديد على طريقة أنه يريد إلقاء إسرائيل فى البحر؟ ألم تبادر إسرائيل بالحرب عام 1967 لأن عبد الناصر أغلق خليج العقبة رغم أن عبد الناصر نفسه لم يكن يريد الحرب؟ وعندما يتحدث حمدين صباحى عن مساندة حركات المقاومة ضد إسرائيل مشيرا إلى حماس وحزب الله، ألا يدرى أنه تم تصنيفهما كمنظمتين إرهابيتين لدى كثير من الدول الهامة عالميا، وأنه يخاطر بوضع مصر على قائمة الدول المساندة للإرهاب؟ هذا الأمر ليس له علاقة بعدم اقتناع صباحى بهذا التصنيف، فهو أمر واقع يمكنه أن يستنكره كناشط سياسي لكن عليه أن يتعامل معه كرئيس مسئول.  وحتى إذا لم تستخدم إسرائيل ذلك لعمل عدائى ضد مصر، فإننا سندفع ثمنه بالتأكيد على المستوى السياسى والاقتصادى وفى علاقاتاتنا الخارجية مع الغرب عموما والولايات المتحدة خصوصا فى وقت نحتاج فيه إلى الدعم الدولى على كل المستويات. وقد كرر عبد المنعم أبو الفتوح هذا الخطأ فى مناظرته مع عمرو موسى. فاصر على العداء بين مصر وهذا "الكيان"، فكيف سيتعامل الرئيس أبو الفتوح إذن مع هذا "العدو"؟. إننى مندهش تماما أن بعض السادة المرشحين لم يدركوا بعد الفارق بين اللغة الحماسية التى كانوا يستخدمونها فى الماضى وسط المظاهرات، وبين اللغة التى يجب اللجوء إليها الآن كمرشحين رئاسيين تحسب عليهم كل كلمة أو إشارة. إننى كمؤيد للثورة وأهدافها منذ اليوم الأول، يؤسفنى أن أستبعد اثنين ممن لايمكن المزايدة على وطنيتهما وإخلاصهما، لأننى بأمانة لست واثقا من قدرة أى منهما على التواؤم مع متطلبات المنصب فى العلاقات الخارجية. فأنا أخشى أن رؤيتهما للعالم وقفت عند حدود سنوات التشكيل فى السبعينيات إبان الحرب الباردة. إننى أتمنى أن أكون مخطئا فى هذا التقدير، لكنها مخاطرة لايمكننى القيام بها عند التصويت.
بقية المرشحين فيهم أسماء تحظى بكثير من الاحترام مثل سليم العوا وخالد على وغيرهما، لكنهم بصراحة لاتوجد لديهم أية فرصة فى الفوز، وهذا يتركنا مع المرشح الأخير القادر على المنافسة: عمرو موسى.
إننى غريزيا لم أكن أميل لتأييد موسى ، ليس لأسباب شخصية، فقد التقيت به كثيرا فى واشنطن أثناء عمله كوزير للخارجية أو كأمين للجامعة العربية. وهو بالتأكيد شخصية كاريزمية وقادر على جذب الناس بذكائه وقدرته على المرح والفكاهة. لكنى كنت أتمنى وجود مرشح قوى يعبر عن الثورة وشبابها. وعمرو موسى لايمكن بالتأكيد احتسابه كمرشح ثورى، ولاأظنه هو نفسه يزعم ذلك. لكنى أختلف مع اللغة السائدة التى تحسب موسى على "الفلول" أو أنه سيكون امتدادا لنظام مبارك. لقد كان يأتى مع مبارك فى التسعينيات إلى واشنطن ورأيت بنفسى أنه لم يكن منسجما تماما مع "المجموعة" المحيطة بالرئيس السابق. بل إن الزملاء الإعلاميين أخبرونى مرة بتعليمات صدرت إليهم بعدم إجراء مقابلات صحفية معه فى واشنطن، كمحاولة لحسر الأضواء عنه. وعندها كانت كلمة تعليمات تثير نعرة الاستقلالية بداخلى، فكنت أتجه مباشرة لإجراء حوار مع موسى الذى ربما لم يكن يعلم وقتها بما يدور حوله. كما أن موسى دبلوماسى محترف يخدم الدولة وليس الرئيس ونظامه. وقد استخدمت عبارته المهمة بأن الطريق إلى الرئاسة مغلق فى مصر فى المناظرة الشهيرة على شبكة سى إن إن التى شاركت فى إعدادها بين الدكتور محمد البرادعى وأحمد عز قبل الثورة بشهور. وموسى بالتأكيد لايمكن احتسابه كمعارض لمبارك، لكن من يقدرون إيحاءات اللغة الدبلوماسية يدركون تماما أنه لايمكن احتسابه أيضا الأتباع.
إن الهدف من هذا المقال ليس الدعوة للتصويت لموسى، لكنى فقط أقدم بعض الأدوات والمعايير التى استخدمتها للمقارنة والتى يمكن أن يستخدمها من يريد للموازنة بين المرشحين واختيار أحدهم.
فعمرو موسى  شخصية  مقبولة عالميا ويفهم قواعد اللعبة الإقليمية والدولية، وهو أمر مطلوب لتجاوز المرحلة الحرجة الحالية. كذلك يواجه موسى انتقادات بأنه لم تكن له مواقف قوية وحازمة بشأن الثورة أو المجلس العسكرى أو الإسلاميين، وهذا عيب جوهرى لكنه فى ظروفنا  الحالية يمثل ميزة هائلة ومطلوبة. فموسى بالتأكيد ليس المرشح المفضل لدى المجلس العسكرى، لكن المعارضة له قد تكون الأقل مقارنة بالمرشحين الآخرين باستثناء شفيق. وسيكون أكثر قدرة بالتأكيد على التعامل مع المجلس بحكم خبرته الدبلوماسية وسيمثل التحول المطلوب إلى رئيس مدنى، بالإضافة إلى أهم عامل وهو شعبيته التى  لاتزال كبيرة بين كثير من المصريين. واقتراحى هو أن يضم معه فى حالة فوزه كلا من أبو الفتوح وصباحى، وأبو الفتوح تحديدا سيكون ضمانة للإسلاميين بأن الرئيس الجديد لن يبتعد كثيرا فى سياساته عن جوهر ماينادون به، مع طمأنة القوى الوطنية الأخرى بأنه سيقف احتراما للسلام الجمهورى ولن يرفع الأذان فى قاعة اجتماعات القصر الرئاسى. ودعم أبو الفتوح وصباحى لموسى سيعطيه المصداقية التى يحتاجها كثيرا بين القوى الثورية التى تعده ضمن الفلول، وهو اتهام خاطئ فى تقديرى.
 أعلم أنه ليس المرشح المثالى للقوى الثورية، لكنه أيضا ليس المثالى للإسلاميين ولا للمجلس العسكرى، وهو عنصر ضعف يتحول فى حالتنا هذه إلى عامل قوة. فرغم عدم الحماس الشديد له لدى بعض القوى، لكن أيضا لايوجد رفض شديد له.    
  فموسى قد يكون الأقل مثالية، لكنه أيضا الأكثر براجماتية وخبرة..
فوزه قد لايدفع الملايين للرقص فى الشوارع، لكنه أيضا لن يدفع الآخرين للتظاهر أو العنف.
فوزه قد لايبهج المجلس العسكرى، لكنه أيضا لن يزعجه بدرجة تدفعه لمواجهة تضر بالجميع ولاتحتملها البلاد.
قد يكون المرشح الأقل ثورية مقارنة بمن وقفوا فى التحرير، لكنه الأكثر أمانا للمرحلة الانتقالية.
قد لايعطى بعض التيارات كل ماتصبو إليه، لكن لن يحرمها الإحساس بتحقيق شئ ما.
وعندما تكون البلاد على شفا هاوية التصدع الداخلى، فإن أقل المرشحين مثالية قد يكون الأكثر ملاءمة. أنظروا إلى ماتحتاجه مصر الآن بواقعها الداخلى والخارجى، وليس ماترسمه لكم أمانيكم.
موسى ليس المرشح الحلم لكل الأطراف.. لكنه -وهذا هو الأهم- ليس المرشح الكابوس لأى طرف.
قد لايملك عصا موسى لحل المشاكل، لكنه لن يلقى بالثعابين، ولن يكون هو نفسه المشكلة..

التعليقات