كتاب 11

07:17 صباحًا EET

صناعة البلياتشو

“يا قليلة البخت في ولادك يا مصر”

العبارة للفيلسوف والكاتب المسرحي والشاعر نجيب سرور، تتردد على مسامعي صباح مساء، أسمعها وفي الحلق غصة، وفي القلب جرح غائر، والروح يعتصرها الألم وتكتوي بالحسرة، وكيف لا والمسوخ تعربد في جنبات المحروسة، تتسكع على الطرقات وفي البلاتوهات والملاعب والمنابر والمهرجانات والمؤتمرات وصالات التحرير وعلى مقاعد المسئولين وبدور العلم والعبادة وعلى أرصفة الوطن؟!!، كيف لا وقد تماهى الفارق بين البلياتشو والعاهرة؟!!، كلهم مسوخ، كلهم أجلاف، كلهم مهرجون!!.

نعم، ما عاد السيرك هو المكان المناسب لعروض البلياتشو بعد أن باتت الاستوديوهات والصحف والمؤسسات والاتحادات والنقابات وحفلات التوقيع وقوائم التكريم تحتفي بأي بلياتشو وتفسح المجال لعروضه، ضاقت به خشبة المسرح وبحث عن أمكنة أكثر رحابة، وجماهيرية لا تتسع لها مقاعد جمهور السيرك، وأهداف أكبر، ولم تعد عروض البلياتشو مثيرة للضحك، فالكثير من عروضه الكوميدية التي يؤديها على مسرح الحياة متخمة بما يدمي القلوب ويطعن الأرواح ويبعث على القيء.

ما عاد البلياتشو يتراقص على الحبل، ويتمايل ذات اليمين وذات الشمال، ويترنح كالمخمور فيسقط على مؤخرته متوجعًا من أجل إسعاد الآخرين، بل صارت كل خطوة يخطوها فوق الخشبة، وكل قفزة يقفزها في فضاء المكان، وكل حركة أو إماءة أو إشارة ترمي إلى تدمير إنسان وتشويهه ليعيش ميتًا أو الإجهاز عليه تمامًا.

ما عاد البلياتشو طيبًا يسعد الأطفال ويضحك الكبار، فهو الآن لبلابي متسلِق يجيد التدليس والنفاق ويأكل على كل الموائد وتهضم معدته سمعة فلان ويغتاب فلانة.

هذا البلياتشو رصدناه قبل 25 يناير يلعق حذاء مبارك، وعايناه بعدها يدشن القصائد في مجلس طنطاوي ويمطر جيشنا شعرًا، ثم بوصول جماعة الإخوان للحكم رأيناه يرتوي ببصاق مرسي ويحك جبهته في حصير خشن لتظهر علامة التقوى على جبينه، وبعد 30 يونيو اصطفي السيسي عن العالمين، وهو الذي قال عن الرجل – في زمن مرسي وحكم الأجلاف – ما قاله مالك في الخمر، سيما بعد فض مستوطنتي رابعة والنهضة.

للأسف كل صباح نستيقظ على بلياتشو جديد يختلف عن بلياتشو ما قبل 25 يناير من حيث “الأوبشنز”، الإضافات كثيرة والخواص مبهرة، والتطور في فن الماكياج مذهل، و”الماكير” صار أكثر علمًا ودراية، يستخدم أدواته باحترافية بالغة ليقوم البلياتشو من تحت يديه متقمِّصًا الشخصية، بلياتشو رئيس تحرير، بلياتشو إعلامي، بلياتشو أديب، بلياتشو لاعب كرة، بلياتشو أكاديمي، بلياتشو خبير استراتيجي، بلياتشو فقيه، وهكذا، بعد المرور بطبيعة الحال على “استايليست” بارع في اختيار الملابس والألوان والاكسسوارات، فصناعة البلياتشو في المحروسة فاقت كل الصناعات الأساسية والتكميلية والتعويضية، ولعل أشهر بلياتشو تألق بعد 25 يناير هو قيادي حزب العمل، ورئيس تحرير جريدة الشعب التي وافتها المنية بعد رحلة من التحريض والفتن والتدليس منقطع النظير التي قطعتها بفضل رئيسها مجدي حسين.

وحزب العمل من الأحزاب التي داهمها طعون الإخوان منذ عهد مبارك أسوة بما حدث للعديد من النقابات والاتحادات، ولعلنا نتذكر أننا وحدنا دافعنا عن البلياتشو مجدي حسين حين اعتقل إبان حكم مبارك، وقبل 25 يناير بفترة وجيزة، كتبنا وهاجمنا نظام مبارك وصرخنا في وجهه من أجل حريته، وهو أول من حرَّض علينا وتآمر وتجبَّر واستقوى وافترى وحاك الأكاذيب إبان حكم الإخوان المجرمين، وبعد 30 يونيو تزعم تحالف دعم الإرهاب، واليوم يخرج علينا ليبريء ساحته من جماعته وأهله وعشيرته، بدَّل الملابس وأزال مساحيق ولطخ وجهه بأخرى وعرى مؤخرته للذباب – فالرجل منهم كما اعتادنا يرتدي النقاب ويتشبه بالنساء لينجو بنفسه – وأحال نبرته الزاعقة إلى صوت واهن يليق بثعلب في مسوح الرهبان، نعم قفز بحركة بهلوانية من السفينة، فالفئران هي أول من يترك السفينة التي تتلاعب بها الأمواج وتدنو من نهايتها المحتومة.

بلياتشو آخر هو أحمد كمال أبو المجد، بهلول كل العصور وبهلوان طاعن في العمر خبر الحيل والكلام المراوغ وتعدد الأوجه، لم يمارس اللعب في عهدي جمال عبد الناصر والسادات كما مارسه في عهد مبارك، وقتها كان يخفي وجهه الإخواني ويتزلف للسلطة التي استراح في حضنها واقترب بشدة من سوزان ثابت المعروفة بسوزان مبارك زوجة المخلوع، ومن شدة قربه من السيدة القوية – التي حكمت مصر من الباطن لصالح ولدها المدلل – صار مستشارًا للمجلس القومى للمرأة، ولعل سوزان بفراستها وعمق تجاربها اكتشفت في الرجل علامات الأمومة، ولا ينسى مراقب علاقة البلياتشو المُسن بسياسة الخصخصة بسبب عمق كراهيته لناصر مثله في ذلك مثل أقرانه في الجماعة مشوهة الأرواح والعقول، وكم بذل جهدًا عظيمًا حتى لا تعود الشركات المنهوبة للشعب، ودافع عن التفريط في مقدَّرات المصريين، وبسبب مواهبه التي أدركها البعض مؤخرًا عمل رئيسًا للمحكمة الإدارية بالبنك الدولي، فكان الرجل المناسب.

ظهرت ملامح البلياتشو وخبراته على أحمد كمال أبو المجد للأعمى في عهد الجاسوس مرسي العياط، فهو الذي أوعز للعياط بفكرة عودة مجلس البلكيمي وأم أيمن وعلي يونس وممدوح إسماعيل، وهو من وضع خطة إهانة المحكمة الدستورية وإرهابها التي كانت ترمي لتدجينها وتراجعها عن أحكام ضد جماعته، وهو من سعى لإعادة تدوير رموز الحزب الوطني ورجال أعماله من جديد، وهو المسئول عن مكتب “بيكر آند ماكنزي” الصهيوأمريكي، وهو مؤسس لجنة الحكماء بعد 25 يناير والتي طانت معنية بنشر الفوضى وتورط البلاد في حالة سيولة كادت أن تسقطنا إلى الدرك الأسفل، وهو صاحب مبادرة التصالح مع القتلة والعملاء والمحرضين ولصوص الأوطان.

أما البلياتشو ذائع الصيت – والذي اختار حزبه وسيلة لتقديم عروضه التي تنتهج البهلوانية والاستريبتيز معًا – أيمن نور فمنذ حداثة سنه وهو يستحل كل شيء ويسلك كل الطرق ولا يتردد في تقليد نوم العازب وعجين الفلاحة والتسلُّق على أكتاف الغير من أجل الوصول إلى مبتغاه، وبدأ حياته صحفيًا لا مثاق له ولا مبدأ، فحين سألوا الراحل مصطفى أمين عن رأيه في سطو الصحفي الشاب أيمن نور على مقالاته ضحك وقال: “أبذل جهدًا عظيمًا حتى يتضمن مقالي فقرة جميلة، ومن ذكاء أيمن نور أنه يبذل جهدًا في جمع تلك الفقرات من مقالاتي في مقال واحد يوقعه باسمه”.

إذن أيمن نور ولد ليكون بلياتشو، ولم تكن معارضته لمبارك – على طريقته – إلا لخلق شعبية بدأها من باب الشعرية حيث شيد مركزًا ثقافيًا يشبه “دوَّار العمدة” ليجمع حوله بعض الصبية المتنطعين من الأدباء والشعراء، وغيرهم من الجادين، وفي تلك المرحلة ظهر البلياتشو ليؤدي دور الولد الذي صفع فتوة الحارة فجأة ليبدو قويًا، وليقدم نفسه كفتوة جديد، يحمي الحقوق ويصون الأعراض ويدافع عن الضعيف، وحقيقة الأمر ما هو إلا نبتة لبلاب متسلقة تزحف على الأكتاف وتلتف حول الأعناق، بلياتشو من نوع آخر لا يسعد العيال ولا يفرج كرب الكبار، لا يستنكف التزييف والتدليس واللعب بكل الأوراق، وبزوال زمن مبارك بانت حقيقته وازدادت جلاء في ظل حكم الإخوان الحواة، ليهرب بعد سقوط الفاشية الدينية بحجة المرض والعلاج في الخارج، المرض الذي طالما استخدمه لاستدرار عطف البسطاء وتنكيلاً بالخصوم، وهو الذي اشتكى سجانه – حين حكم عليه بالسجن في قضية تزوير توكيلات حزبه القديم – ولم تكن شكواه إلا لنفاد كمية “الجيل” وتعسف إدارة السجن في السماح بكميات إضافية ليبدو البلياتشو القبيح جميلاً، ولا يغيب عن أحد أن بطل الأبطال خرج من محبسه بعفو من مبارك.

مازال البلياتشو يقدم عروضه من الخارج بعد 30 يونيو على ذات المنوال، البهلوانية مشفوعة بالاستريبتيز، وهو أكثر قبحًا من عاهرة تأكل بثدييها.
وتطول القائمة، ولا يخلو رواق أو دهليز أو قاعة أو إدارة من بلياتشو.

التعليقات