مصر الكبرى

09:05 صباحًا EET

نحن والثورة ومفاهيم ‘التجريف’…اكتشافات ومفاجآت غير سارة

كغيري من المواطنين والمراقبين للشأن المصري أتابع عن كثب الجدل الدائر على كل المستويات، في الجمعية التأسيسية كما في المقاهي والشوارع؛ كما أن نفس الشعور بالسخط والسأم، والتشاؤم إذا شئنا الصراحة، قد بدأ يجد طريقه إلى نفسي ككثيرين خاصةً وأن التطورات في مجملها لا تساعد على الهروب منه، وذلك على الرغم من محاولتي الصادقة لمقاومته حرصاً مني على الاحتفاظ بتماسكي الشخصي وما أنشده وأتوخاه من الحيادية في أحكامي.

و لما كنت ممن نادوا بالثورة وتوقعوها وانتظروها ولم يجدوا مفراً منها للتخلص من مبارك الذي كان قد مضى شوطاً بعيداً في التحلل على كرسيه، فلم يغب عني عاملا المفاجأة والأحداث الصغيرة التي تقلب كل الحسابات ودورهما المحوري والفاصل في التاريخ، فالثورة مفاجأة، بالتأكيد أنها لا تأتي من فراغ وإنما تنفجر على أرضية صراعٍ اجتماعي اقتصادي وطبقي إلا أن الشرارة التي تفجرها تأتي دائماً بغتة، وربما فاجأت من قام بها قبل غيره. كذلك الثورة المصرية (وسائر الثورات العربية) فاجأت باندلاعها الجميع، أنظمةً وشعوباً وقوىً إقليمية وعالمية، ولم تتوقف عند هذا الحد وإنما زادت على ذلك بالعديد من المفاجآت الأخرى السارة كالإطاحة السريعة بمبارك والموقف الذكي الأوفر واقعيةً وحكمةً من قبل القوات المسلحة في هذا الشأن وقلة الدم المسفوك نسبياً، بالإضافة إلى أنها جعلتنا نعيد اكتشاف مصر عامرةً بالمواهب والحيوية المتدفقة رغم كل الفقر والصعاب اليومية.غير أن تلك للأسف لم تكن نهاية المفاجآت.فقد أتحفتنا الثورة بمفاجآت، بل اكتشافات أخرى محزنة ومزعجة عن واقعنا، ولست أبالغ أن أقلها شأناً هو ما تبين لنا من كم السرقات ونهب المال العام الذي لا يوصف بأقل من كونه تجريف وبيع للحم مصر الحي لأطراف خارجية مشبوهة ولقطاع الطريق من المسؤولين ومن تحلق حولهم من أسرهم و’شللهم’…في رأيي أن ما اكتشفناه وفاجأنا عن واقعنا الاجتماعي والفكري يفوق ذلك بكثير ويتخطاه ضرراً ولعلي أجزم بأنه يتطلب وقتاً أكثر للإصلاح، ففساد وترهل الأجيال لا تتداركه سنة أو اثنتان من المحاولات الجادة مهما خلصت النية، ومع اعترافي بأن الوعي يتطور بوثباتٍ في أوقات الثورة فإن ذلك لا ينفي ولا يقلل من احتياجنا لوقتٍ طويل…و لئن كنت، وآخرون كثيرون غيري، إما أشرنا أو أسهبنا في تحليل ما يمر به مسار الثورة من استعصاء بين القوى السياسية على الساحة (والقوات المسلحة التي أؤكد أنها لم تخرج من الصورة بعد كما يتوهم البعض…) فما ذلك الاستعصاء إلا انعكاس وتجلي للاستعصاء والتجريف الاجتماعي الذي ورثناه من الأربعة عقود الماضية من التآمر على مصلحة الوطن وبيع مقدراته للمحور الصهيو- أمريكي السعودي وما صاحب ذلك من قمعٍ وفقرٍ وتردي في كل الخدمات (وعلى رأسها التعليم) من دولةٍ تنصلت من كل مسؤولياتها؛ وعلى الرغم من شواهد عديدة على مدى ما تردينا إليه فيما يطلق عليه أعمال فنية وفي الصحافة وسائر وسائل الإعلام ومستوى ومضمون الجدل العام وحتى سلوكيات الناس، فإن حجم المشكلة وعمق التجريف كان مستتراً بدرجةٍ ما تحت مظلة البطء وتجميد الصراعات والبلادة التي فرضها مبارك وعممها علينا طوال فترة حكمه وكانت أسلوبه المفضل لـ’تنويم’ الجمهور وللهروب من الاصطدام ما أمكنه ذلك.أما الآن، وقد أُطيح به، وفي وقتٍ يتسم بسيولة شديدة ليس لها سابقة في ذاكرة أحد، فإن كل ما كان مختبئاً أو مكنوناً ظهر إلى السطح وتبدى للعيان، هكذا جهاراً نهاراً، بكل قصوره وترهله وقبحه في أحيان كثيرة….و حدث ولا حرج…فهناك الإخوان المسلمون، الجماعة الأكبر والافضل تنظيماً والتي لم تألُ جهداً ولم تدخر في إدهاشنا، ففي البداية لم تنضم للثورة إلا متأخرةً بعد أن ثبت أن مباركاً إلى رحيل، ثم ادعت أنها لن ترشح أحداً للرئاسة فأخلفت.. وعدت بمنجزات تبين أنها تفوق قدراتها في المئة يومٍ الأولى ولم تحقق أياً منها، حتى أبسطها وأتفهها من قبيل جمع القمامة، وإذ زفت إلى الشعب ‘مشروع النهضة’ فإنه سرعان ما تبخر وتعلل أحد أبرز رجالاتها بأن ذلك المشروع الغامض يتطلب شعباً آخر أكثر انضباطاً من الشعب المصري ولئن كان البعض قد دُهش من غياب المشروع والرؤية وذلك القدر المذهل والمحزن من التباين بين ضخامة التنظيم وإفلاسه الفكري فإن الكل تقريباً لم يملك إلا أن يتعجب ويضرب كفاً بكف من مضي الجماعة وذراعها السياسية في مشروع ‘التمكين’ بإحلال كوادر الجماعة في شتى الوظائف ومن قرارات الرئيس (والجماعة من ورائه بالطبع) الصدامية مع القضاء والنائب العام بما اتسمت به من تسرع وانعدام كياسة وحرج من قبل فصيلٍ عريقٍ في السياسة اشتهر فيما مضى بأنه يجيد أكثر من غيره بل يحترف الخطوات الحذرة والموآمات؛ وهناك ذلك الحضور الذي فاق كل تصور لجماعات الإسلام السياسي، وما ملأت به الفضاء العام من تصوراتها ومشاريعها وخلافاتها (كزواج القاصرات على سبيل المثال لا الحصر) ومن استدعائها لأنماطٍ من السلوك والقوانين لا تناسب المتغيرات وظروف الزمن، الأمر الذي أشاع جواً من الرعب لدى قطاعاتٍ ما فتئت تتسع من الشعب ولا تقتصر فقط على أتباع الديانات الأخرى. كما أنه هنالك ذلك التشوش العنيف في المفاهيم والالتباس في التوقعات وعدم الفصل بين طبيعة المنصب ودوره وتصورات الشخص عنه، من ذلك مثلاً على مستوى سلوك المسؤولين (ولعله أبرز مثال) د. مرسي الذي يحرص على حضور صلاة الجمعة في زفةٍ إعلامية حيث لا يكتفي بالصلاة وإنما يصمم على أن يقف خطيباً في جمهور المصلين لسببٍ لم أصل وغيري إلى فهمه رغم صدق المحاولة، ومن ناحيةٍ أخرى فقد فوجئنا بمدى الضحالة في تبلور الوعي الطبقي لدى الجمهور الأوسع وهشاشة الطبقة الوسطى التي زودت المجتمع المصري فيما سبق بالكثير من قاماته الفكرية والقيادية؛ يجوز أننا جميعاً كنا نعلم وكثيراً ما رددنا أنها طبقةٌ تتآكل إلا أننا لم نكن نتصور ما وصلت إليه من ضعفٍ وضحالة دفعا الكثيرين من أبنائها إلى عداء الثورة أو الشعور بالضياع إزاء الحدث المتغير وما نراه الآن من تخبط في تشكيل الأحزاب والتنسيق بينها…. والحقيقة أننا سرعان ما نلتمس لطبقات المجتمع كلها العذر في ضوء مفاجآتنا، أو بالأحرى فجائعنا، في ما يفترض أنها النخبة المثقفة المصرية التي لم تستطع أن تتخطى تشرذمها أمام الاخطار المحدقة بكيانها وبالوطن بأسره والسعي المسعور لكثيرين من رموزها لتأمين منابر إعلامية تليق بتألقهم وذواتهم المتضخمة، حيث قابلوا في منتصف الطريق إعلام مبارك الذي غير جلده وما زال يعادي جوهر الثورة ومفهومها ليفسدهم بما يفرضه على أغلبهم من أنماطٍ وتوقعات ليستمر في استضافتهم، فهذا يستضاف ليسب الفلول وذاك ليهاجم الإخوان وآخر ليدافع وهكذا…حالة من الفوضى المدمرة والمبتذلة.لم أندم أبداً على مناداتي بالثورة ومساندتي لها، إلا أنني بت أدرك مقدار المشقة والعمل الذي ينتظرنا لردم هوة التجريف الفكري والثقافي التي خلفها مبارك… وعلى الرغم من يقيني بحتمية وأولية مواجهة الواقع والمضي قدماً في إصلاحه وإصلاح أنفسنا فإن أخشى ما أخشاه أن تعاجلنا الأحداث وقوى الظلام قبل ان نتمكن من ذلك.

التعليقات