كتاب 11

07:17 صباحًا EET

لعنة الثأر في الصعيد (1-2)

كلما تجدد مسلسل الثأر هنا أو هناك على امتداد الصعيد كله من أقصاه إلى أقصاه .. أطل التخلف برأسه كاشفا عن أبشع صوره معلنا عن فصل جديد من فصول الدماء ، والصراع ، والبلاء .. وظهر معه بوضوح شديد التناقض الكبير بين ما هو معروف تاريخيا عن المصريين من تسامح وود وطيبة وعطاء ، وبين الثأر والعنف والوحشية والعداء .

فقد كان المصريون منذ عصر الفراعنة أهل فكر وخلق وإبداع ، وذوو صبر وجلد ، وأولو بأس شديد ، بنوا سيدة الحضارات في العالمين ، وصدوا الغزاه الطامعين ، وطردوا عتاة المحتلين على مدى آلاف السنين ، كما اشتهروا بالطيبة والكرم ، وعرفوا بالشهامة والنخوة والمروءة ، وكانوا شعبا مضيافا متسامحا متآلفا ، يميل معظم أبناؤه إلى السلامة ، ويحبون الاستكانة ، وهم يعيشون حياتهم على ضفاف نيلهم الخالد حياة رغدة رخوة يغلب عليها طابع اللين والعفو والتسامح ، حياة آمنة مستقرة أبعد ما تكون عن الغدر والغلظة والعدوان ، ولم تعرف في تاريخها العنف والقسوة والانتقام .

لكننا لو أمعنا النظر في التاريخ لزال هذا التناقض الشديد بين ما كان معروفا تاريخيا عن المصريين وبين ما هم عليه في هذا الزمان .. خاصة إذا علمنا أن القانون في عصر الفراعنة كان حاضرا دائما وأبدا فقد كان المظلة ، والسيد ، والحكم الذي ينظم علاقة المصريين بعضهم ببعض من ناحية ، وعلاقتهم بالدولة والحاكم من ناحية أخرى ولا غرابة في ذلك فالدولة المصرية هى أقدم دولة عرفها العالم ، والمصريون هم أول من سن القوانين وطبقها بل وصدرها للعالم بأسره الذي كان يعيش حينئذ في الصحراء ، والبادية ، والبراري ، ويسكن الكهوف ، وتحكمه شريعة الغاب حيث كان البقاء للأقوى .

أما عادة الثأر فلم تكن معروفة تاريخيا بين المصريين منذ عصر الفراعنة إلى أن وفدت عليهم هذه العادة الجاهلية مع هجرات القبائل العربية بعد الفتح الإسلامي لمصر .. حيث حطت معظم هذه القبائل رحالها واستقرت في الصعيد ، فانصهرت بين أبنائه ، وأصبحت جزءا لا يتجزأ من نسيجه .. لكنها احتفظت بعصبيتها ، وقبليتها ، وحميتها الجاهلية ، وأعرافها ذات الخلفية الثقافية الصحراوية القاسية التي ولدت من رحم صحراء جرداء لازرع فيها ولا ماء ، واحتفظت بعاداتها وتقاليدها التي اكتسبتها في مجتمع دموي جاف كانت تنتشر فيه العادات الجاهلية ، والحروب القبلية .. مجتمع بدائي التكوين والهوية لم يعرف في تاريخه الجاهلي شكلا من أشكال الدولة ، ولم يخضع يوما لأية سلطة ، ولم يسمع أبناؤه من قبل عن القانون ، أو النظام ، أو العدل ، أو المساواة ، أو الرحمة .. هذه هى الحقيقة المرة التي لا يفيد معها الإنكار ، ولا تنفع فيها المكابرة .. ولا معنى هنا للمزايدة على كاتب هذه السطور الذي يعتز أيما اعتزاز بتاريخ ، وحضارة ، وهوية بلاده .. في الوقت الذي يفتخر فيه بكونه واحدا من أبناء هذه القبائل العربية المهاجرة . استقرت معظم القبائل العربية المهاجرة في الصعيد حيث المناخ الحار الذي يشبه إلى حد كبير مما هو عليه الحال في شبه الجزيرة العربية .. ومنذ ذلك الحين انتشرت عادة الثأر في ربوع الريف المصري كله كالخلايا السرطانية الخبيثة التي تتكاثر بشكل مهول في زمن قياسي محدود مما يهدد نسيج المجتمع ، ويقوض أركانه ، ويقضي على أي أمل في تطويره .

لا يفوتني هنا أن أؤكد على أن عادة الثأر من العادات العربية القديمة ، وكذلك الدية .. ثم جاء الإسلام فحرم الثأر ، وأبقي على الدية ، وحث أولياء الدم على العفو بل وأثابهم عليه ” فمن عفا وأصلح فأجره على الله ” ، وشرع القصاص وقصره على ولي الأمر .. أردت الإشارة هنا إلى هذه الجزئية حتى لايربط المغرضون بين عادة الثأر والفتح الإسلامي لمصر . تعتبر عادة الثأر في الصعيد بكل المقاييس شكل من أشكال التخلف ، والتعصب ، والتطرف ، والإرهاب .. بل أشدها فتكا ، وأكثرها خطرا على حاضر المجتمع المصري ومستقبله .. لذلك وقفت في الآونة الأخيرة تيارات داخلية لا تؤمن بالوطن وراء اشعال هذه العادة الدخيلة على المجتمع المصري المسالم .. مستهدفة إرباك المؤسسات ، وزعزعة الأمن والاستقرار في البلاد .. كما لعبت على أوتارها وأذكت نيرانها أطراف خارجية حاقدة ، أو طامعة ، أو عميلة ، أو خائنة ، أو متآمرة .. وأبسط مثال على ذلك ما صرح به بعض المسئولين وتم تداوله بشكل واسع على المستويين الرسمي والشعبي اتهاما ، وتحليلا ، وبحثا في الأسباب التي أدت إلى الصراع الدموي الذي وقع بين قبيلتي الدابودية والهلالية بمحافظة أسوان منذ ما يقرب من عام .

الحق في الحياة من حقوق الإنسان التي نصت عليها كافة المواثيق الدولية ، وشتى الدساتير حول العالم ، ومن بينها الدستور المصري 2014 م ، وجميع الدساتير التي سبقته .. تماما كالحق في ( الغذاء ، والتعليم ، والصحة ، والسكن ) وغيرها من حقوق المواطنة الأخرى .. التي تخلت عنها الدولة عامدة متعمدة تجاه أبناء الصعيد .. فمن المعروف أن مثلث التخلف ( الفقر ، والجهل ، والمرض ) الذي توطن في الصعيد منذ زمن بعيد هو الأبن الشرعي لسياسة التهميش ، والظلم ، والفساد ، والإهمال التي إنتهجتها الحكومات المركزية المتعاقبة على مدى الثلاثة عقود الأخيرة .

نعم توطن التخلف في الصعيد .. فمهد البيئة ، وهيأ الظروف ، وعبد الطريق التي ساعدت على انتشار عادة الثأر حتى تحولت إلى ظاهرة عامة أصابت جل العائلات في الصعيد .. وأصبح التعايش السلمي بين أبنائها حلما صعب التحقيق .. غير أن هناك أسبابا جوهرية أخرى أدت إلى انتشار ظاهرة الثأر لا تقل هذه الأسباب أهمية عما سبق ذكره ألا وهى : –

( 1 ) عدم تنفيذ الأحكام القضائية بسبب تفشي الرشوة ، والوساطة ، والمحسوبية ، واستغلال النفوذ ، وكافة أوجه الفساد الذي ضرب مؤسسات الدولة .. على مدى ثلاثين عاما في عهد النظام المستبد الفاسد البائد الذي عمت فيه سياسة التفرقة ، وساد فيه التمييز حتى أصبح السمة الغالبة على اداء السلطات المعنية بفرض القانون .. والذي أدى بدوره إلى زيادة الأحقاد ، وزرع الكراهية ، ونشر الروح العدائية بين أبناء الوطن الواحد .

( 2 ) انتشار السلاح بكثافة كبيرة .. كما ، ونوعا ، وبكافة أشكاله ، وجميع سرعاته ، ومختلف أحجامه .. وكثرة المهربين له ، وتزايد المتاجرين فيه ، والسباق المحموم علي شرائه .. أدى إلى التنافس الشديد بين العائلات على إقتنائه .. وذلك للأخذ بالثأر ، أو استعدادا له ، أو للردع والتخويف ، أو لفرض الهيمنة وبسط النفوذ ، أو حتى لمجرد التفاخر واستعراض القوة .

( 3 ) تراخي القبضة الأمنية أدى إلى ظهور تشكيلات عصابية مسلحة تقبع في عمق الظهير الصحراوي الذي لاوجود فيه لتنمية زراعية أو صناعية .. مما جعله يتحول إلى بؤر اجرامية يأوى إليها ضعاف النفوس والخارجين عن القانون الذين يرتكبون جرائم الخطف ، والقتل ، والسرقة ، وقطع الطرق ، و تجارة الأسلحة والمخدرات ، والإبتزاز ، والبلطجة ، وترويع المواطنين

. ( 4 ) في الوقت الذي كان ينهب فيه رأس النظام المستبد الفاسد البائد ، واسرته ، وحاشيته ، وأركان حكمه ، وأزلامه المال العام .. كان مجرد الحديث عن تنمية الصعيد حكمه حرام !! .. نعم حرمت هذه الطغمة الفاسدة محافظات الصعيد من التنمية الشاملة .. فلا توجد مدارس كافية ، ولا بنية تحتية ، ولا مستشفيات ، ولا استثمار ، ولا طرق ، ولا مواصلات ، ولا مزارع ، ولامصانع ، ولا شركات تستوعب الملايين من الأغلبية الساحقة المسحوقة من الشباب العاطلين عن العمل من الخريجين ، والعمال ، والفلاحين .. الذين ضاعت حقوقهم ، فضاق بهم الحال ، وقلت الحيلة ، تحت وطأة لهيب الأسعار ، في مجتمع انتشرت فيه الأوبئة والامراض ، وساد فيه العنف ، وعم الانفلات ، وتراجعت فيه القيم والمبادئ ، وغابت عنه العادات والتقاليد والأعراف .. وبالرغم من ذلك كله فإن أبناء الصعيد يعلقون على المستقبل الكثير من الآمال .. لكنهم يحملون القليل من التوقعات .

ويبقى التساؤل مشروعا .. كيف نتوقع من مواطن عاطل فقير جاهل مريض أن يكون مسالما أو متسامحا فضلا عن أن يكون إنسانا سويا ؟؟ !! ، ومتى تصبح هموم وحقوق المصريين ودماؤهم هى المحرك الأساسي لسياسات الحكومة وخططها التنموية ؟؟ !! ، ومتى تصبح مصلحة الوطن هى الدافع الأول والأخير لإهتمامات وأولويات المسئولين ؟؟ !! .

التعليقات