كتاب 11

12:20 مساءً EET

اليقين نور أم هلوسة

يراد باليقين في اللغة العلم الذي لا يساوره شك وقال البيهقي أن “اليقين هو سكون القلب عند العمل بما صدق به” وأرى أن اليقين هو المفتاح القائد الذي يؤطر لقرارات البشر وتوجهاتهم ويرسم خرائط تصرفاتهم في الأشياء، وهو ركن الشعوب الحصين وغالب تراثها المنقول نصا وتأويلا حيث لا مجال للشك أو البحث أو الابداع.

يقين العرب الأكبر هو دينهم والغالب فيه هو الاسلام الذي أرسى أصوله وقواعده محمد صلى الله عليه وسلم رسولا ناقلا عن الله الى شعوب الانس والجن من آمن منهم بما سبق من رسائل الله ومن كفر بها ومن أضاع ومن فرط، الاسلام هو العنوان الرئيسي القابع في منتصف صفحة اليقين العربي الكبيرة جدا والتي تضم في جنباتها كلاما متعددا متنوعا يصف ملامح هذا اليقين ومحدداته وقواعده لكن بعيدا عن العنوان بل وربما يناقضه ويجافيه جفاء الأعداء الموتورين.

جاء محمد محملا بالقرآن بنى به يقين معاصريه ووجدانهم وشحذ به أفكارهم وهممهم وأعاد ترتيب أولوياتهم وتراتبية مكارم أخلاقهم ثم أحالهم الى أنفسهم وعقولهم وضمائرهم لكي يبدعوا ويتألقوا في الحياة وهذا ما فعله من تبعوه من القادة فبدأ أبو بكر المسيرة كخليفة لرسول الله ثم تلاه عمر العبقري المستنير كأمير للمؤمنين لكن المسيرة تعطلت وتعثرت وخبت طاقتها بمرور الزمن وتفاقم الأطماع والأوجاع فتراجع الفكر الحر ذو الهوية المسلمة وتصدر الفقه الذي هو الفكر الديني كل المشاهد ونسي الناس فيما نسوا “وآفة حارتنا النسيان” أن الفقه ليس من صنع الله وأن الفقهاء ليسوا ورثة الأنبياء الذين لم يرثهم أحد منذ جاء أولهم ورحل خيرهم، وهنا أستدرك مرة أخرى أبا بكر الصديق ومساهماته المبكرة في ايذاء اليقين المسلم باعلان نفسه كخليفة لرسول الله وقد جانبه الصواب في ذلك وجانب كل من أحاط به من الصحابة وان كان عمر قد أصلح المسار بعد ذلك الا أن شظية الخليفة ظلت عالقة في الذهن المسلم والعربي على وجه الخصوص ولم يتخلص منها الى يومنا هذا، محمد صلى الله عليه وسلم نبي ورسول لا يخلفه أحد فالنبوة منحة الهيه ولا أنبياء بعد محمد كما أن أبا بكر ليس كهارون موسى وليس شريكا لمحمد ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يكن ملكا أو حاكما عاما لأرجاء الجزيرة العربية ولم ينصب نفسه في ذلك المكان أبدا، بل أنه حين هاجر الى المدينة لم يطرح نفسه بديلا لأي من قيادات المدينة ولم ينصب نفسه ملكا عليهم، صحيح أن قدومه تسبب في ايقاف مشروع اعلان عبدالله بن أبي حاكما عاما أو ملكا على المدينة لكن الرسول لم ينافسه في هذا الشأن، كانت القبائل تفد على الرسول تقر باسلامها ثم يعودون من حيث أتوا ليستكملوا حياتهم كما كانت بنفس نظمهم القبلية والسياسية، ولم يصدر عن الرسول خطاب أو وثيقة أو عهدا مدموغ فيه صفته كحاكم أو ملك بل دائما ما كان يوقع بأنه محمد رسول الله، بل أن سهيل بن عمرو رفض حتى هذه الصفة في معاهدة الحديبية وأقره على ذلك رسول الله ووافقه

لم يكن لأبي بكر أن يخلف محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة كما أن رسول الله لم يكن ملكا ففيم الخلافة ؟ لقد جانب الصواب ابابكر بحسن نية وسلامة قصد وله العذر في ذلك وعندما تولى عمر أعاد الأمور الى نصابها وأعلن نفسه أميرا للمؤمنين وليس خليفة للرسول، واستكمل بناء الدولة التي بدأها أبوبكر ليستكمل المسلمون رحلة بناء اليقين وتطويره في روافد الدولة الراشدة لكن مع مجيء الامبراطوريات الاسلامية الى التاريخ تغيرت المسيرة وبدأ انحراف الوعي من جديد.

تقلد الفقه عباءة الدين نيابة عنه وأصبح دينا في حد ذاته وأصبح للفقهاء مكانة الشارع الذي يحرم ويحلل ويعطي ويمنع مع أن الشارع الأوحد في الاسلام هو الله والاسلام في مكنونه الأهم هو الاستسلام لله فقط وليس لأحد غيره بلا وساطة أو زلفى، لكن النقل عن النقل والرأي المبني على رأي آخر ضبب الرؤية وباعد المسافات، فاستسلم العامة من الناس للفكرة وتشبعوا بها وأصبح الاسلام هو الفقه والفقه هو الاسلام ولأن الاسلام هو دين الله وكل ما يأتي من الله يقين فقد أصبح كل ما يأتي من الفقه يقين، فالفقيه عالم مفسر بين الله وعباده الذين لا يفهمون، بدأ الفقهاء بالشرح والابلاغ ثم تطور الموضوع فأصبح الفقيه يحلل ويحرم ويقيس ويرتب الأولويات ويحدد المنافع والمفاسد ويخترع آليات جلب المنفعة ودرء المفسدة، ومع كل مستجد في الحياة يصدر تشريع يشبه تشريعا الهيا ثم وضعت القواعد الفقهية ودججت لها محاذير وأسوار كأن هذه القواعد كانت غائبة عن الله وكان لابد لأحد أن يستكمل هذا النقصان بقواعد عامة مجردة، فتداخل القانون مع الأخلاق واختلطت العبادات مع الشكليات واتسعت الهوة ما بين طرح القرآن والسنة لقضية الدين وطرح الفقهاء خاصة الفقهاء المحدثين لنفس القضية.

ولأن الفقه موضوع بحث انساني صرف فقد نشأ الاختلاف وهذا شأن طبيعي لكن الشأن غير الطبيعي أن يتحول الاختلاف الى اقتتال وصراعات دموية شرسة أطرافها كلهم على يقين، والواقع أن كل فريق كان له يقينه الخاص لأن الخلاف البشري في الفقه لبس قناع الدين وأحال الفقهاء والباحثين أنفسهم الى مصاف شركاء الله يفسرون حكمته التي شاء ألا يفسرها ويشرعون معه حيث لا يجب أن يشرعوا، ولو أنهم اختلفوا في أبحاثهم ورؤاهم في حدود الخلاف البشري كخلاف علمي مثلا دون اقحام اليقين العام للمجتمع في هذه الخلافات ما كان لليقين المسلم أن ينقسم وما كان للمسلمين أن يصبحوا فرقا وشيعا وطوائف يتصارعون على نفس المسميات والمصطلحات لكن بمضامين مختلفة.

التعليقات