كتاب 11

07:39 صباحًا EET

عبقرية الإحساس

مساء الثلاثاء السادس من يناير عام خمسة عشر وألفين ميلادي، عاد الرئيس المصري من رحلة خليجية سريعة، تصادف توقيت العودة وموعد احتفال مسيحيو مصر الأرثوذكسيون بعيد الميلاد المجيد.

وهو مناسبة دينية عظيمة بالنسبة لمسيحي مصر، وإذا بالرئيس بناء على إحساسه الذاتي الخالص ومشاعر شخصية البحتة، وبدون أي تخطيط مسبق كما أذيع، يأمر بالتوجه إلى منطقة العباسية، حيث مقر البابوي، للأب الروحي لأغلب مسيحي مصر. والمكان ليس إلا بقعة من بقاع أرض الوطن، مبنى واسع ضخم فخم في القلب من العاصمة القاهرة، أرسى حجر أساسه عام 1965 على يد رئيس أحبه معظم المصريون، وكان ذلك في احتفال عالمي مهيب، ثم وبعد ثلاث سنوات تقريبا تم افتتاح المبنى عام 1968. ولم يكن المكان إلا الكاتدرائية المرقصية التي يقام في بهوها الرئيسي قداس كبير احتفالا بعيد الميلاد.

دخل الرئيس، فهتفت الناس رغم الترانيم المقدسة، ثم وقف الرجل إلى جوار أعلى رمز ديني لهم، وبين أفراد الشعب المصري المتواجدين في المكان، توقفت ترانيم القداس استماعا لترانيم الرئيس، الذي قال ضاحكا بانشراح وحبور: أنا هنا لأنه كان لازم وضروري، أجي وأقول لكم: كل سنة وأنت طيبين، كل سنة وإحنا طيبين، ومصر كلها بخير.

ضجت معظم أنحاء مصر- إلا قليلا- مهللين، كرد فعل إيجابي للتصرف الجميل الطيب الذي أعتاده سابقا أهل مصر فيما بينهم، سعد الغالب الأعم من الشعب، حدثت فرحة غامرة صادقة، فرحة ناتجة عن أحساس اختلج في صدور اشتاقت لها، جاءت الفرحة نتاج للمعنى الأول والقريب الذي نطقت به زيارة الرئيس في دار هي رمز من رموز هذا الوطن، رمز وجودهم وانتمائهم لهذه الأرض، قالت الزيارة لهم بحروف واضحة وضاءة أنهم لا يعيشون هنا على هامش النص، بل هم جزء أصيل لا يتجزأ من متن هذا الوطن الكبير، كانت الزيارة كما رأيناها جميعا، فرحة باسمة جاءت في مناسبة مبهجة ليس لهم فقط، لكنها لنا جميعا فالابتسام والفرح ينتقل بين الأرواح، كما ينتقل ضوء النهار بسرعة ويسر، بين جنبات الظلام فيمحوها، لذا فأعياد المصريون تشيع البهجة في نفوس الجميع لا تقتصر على فئة دون الأخرى، ولا يوقفها أبدا من أين أتت أو لمن توجهت ؟ فالجميع يحس أنها له، حتى وإن لم تكن، الجميع يسعد بها، إلا قليل من بعض شارد الفكر والعقل، قلة من هنا أو هناك.

قال صديق مسيحي لي عبر الهاتف، بعد أن هنأته بالعيد، معقبا على الحدث: لقد جعل الرجل قلبي يرقص فرحا في صدري، لقد انتظرنا مثل هذا الفعل – أو أقل منه- طويلا، أن ما فعله الرجل لهو رد اعتبار فعلي وعملي لكل مسيحي مصري، سواء كان يعيش هنا معنا، أو يعيش بعيدا عن أرض الوطن، لقد عشنا الغربة هنا طويلا، عشنا الاغتراب في حضن مصر، عشنا أجانب على أرضنا المباركة التي وطأها المسيح وأمه العذراء، لكن هذا الإنسان الرجل المصري رئيسنا المخلص لمصر وشعبها من استعمار – استحمار- عقولهم بفكر منحرف ضال، كاد أن يرسل البلاد إلى سكة الندامة..! هذا الذي أؤمن بصدق أنه مبعوث العناية اللاهية إلى مصر، لقد أرسله الرب لإنقاذ مصر وأهلها. واستطرد الصديق مضيفا: لقد كانت زيارة الرئيس للكاتدرائية المرقصية، ليلة العيد رسالة قصيرة قليلة الكلمات، لكنها عظيمة المعنى والأثر، رسالة للعالم أجمع، تقول أن مصر أمنة وستظل دائما أمنة أرضا وشعبا، حتى القيامة، لو كره الكارهون.

قلت له معلقا على كلامه وعلى الزيارة، إن بعض المسيحيين غير راض عن الزيارة، وقالوا أنها تحمل في طياتها الكثير من التملق والرياء، وأنه واضح لهم أنها تمثيلية سابقة التجهيز، فجاء رد الصديق منفعلا رافضا، وهو يقول: هذا هراء وسخف، ما بعده سخف، ومن يقول هذا فأنا أؤكد أنهم أناس منحرفي الفكر فاقدي المنطق ! لكن دعنا افتراضا نقبل بزعمهم، ونقول أن الأمر مخطط له، وأن هناك من قال للرئيس أفعل هذا..! وهنا سأقول مرحبا بهذا التخطيط العبقري، الذي أعاد اللحمة بيننا كما كانت على مر الزمن، بل أقول هل من مزيد من هذا التخطيط والتوجيه، ومثل تلك الأفعال الإيجابية التي تسعد الناس، وتشد من أزرهم في مواجهة كل ما يهدد الوطن الغالي. يا صديقي إن لم يكن الرجل متصالحا من قلبه مع هذا لم يكن ليفعله، ثم أن الصدق في فعله ومشاعره، كانت مقروءة حتى من فاقد البصرة، ومن لم يراه هو فقط فاقد البصيرة !

علقت الهاتف وأنا راض كل الرضا عن الحالة الجميلة التي شعرت بها عندما شاهدت الزيارة وسمعت الكلمات، ومن الحالة الرائعة التي استشعرتها في تهدج صوت صديقي المسيحي وهو يحاول أن يجد المناسب من الكلمات ليعبر بها عن ما شعر به هو أخوانه في ليلة العيد عيد الميلاد، الذي نسأل الله أن يكون يوما مباركا على كل مصر وأهلها من المصريين.

التعليقات