كتاب 11

06:53 صباحًا EET

لعنة الثأر في الصعيد (2-2)

يعتبر الثأر من أخطر وأسوأ العادات والأعراف الاجتماعية الموروثة التي عانى منها أبناء الصعيد منذ زمن بعيد وما يزالون .. والتي كبدتهم خسائر فادحة في الأرواح والأموال ، وأحدثت نزيفا حادا في المقدرات ، ووقفت حجر عثرة في سبيل تقدمهم ، فأصبحت سببا رئيسيا في تخلفهم .. حتى كادوا أن يخرجوا من سياق التاريخ اقتصاديا ، وسياسيا ، واجتماعيا .. بالرغم مما لديهم من عقول ومواهب وقدرات ، وما يملكون من صحراء مترامية ، وخامات معدنية ، ومعالم حضارية تقدر بثلث آثار العالم إن لم تزيد !! .

حصدت لعنة الثأر منذ أن أصابت بلادنا الحبيبة المسالمة .. أرواح عشرات الآلاف من خيرة أبناء الصعيد والبقية تأتي في الطريق .. دماء زكية سالت في غير موضعها ، وأرواح بريئة أزهقت بغير ذنب وأخرى تنتظر !! .. الماضي كئيب ، والواقع مرير ، والمستقبل مظلم .. وليس في هذا أدنى مبالغة في جهامة الواقع ، وضخامة المشكلة التي طال الفشل في إستئصالها على المستوى الرسمي والشعبي .. ولكنها الواقعية الشديدة في تناول أبعاد هذه القضية الاجتماعية الخطيرة .. التي تحولت مع مرور الأيام وتعاقب السنين من عادة جاهلية إلى عدوى كارثية .. ضربت بلا رحمة الكفور والنجوع والقرى المصرية ، ولم تسلم من شرورها أيضا المدن الرئيسية .. فالجروح غائرة ، والآلام مبرحة ، والأوضاع متفجرة ، والحياة متردية .. في مجتمع يمكن للإنسان فيه أن يحصل على السلاح الآلي بمنتهى السهولة كي يحصد أرواح عديدة في ثواني معدودة !! .. وهنا تكمن الخطورة وهل هناك خطورة أكثر مما أشارت إليه إحدى الاحصائيات الصادمة .. التي خلصت إلى أن ضحايا جرائم الثأر في الصعيد فاق عددهم شهداء كافة الحروب التي خاضتها مصر ضد العدو الصهيوني .. طوال تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي !! .

أصبحت عادة الثأر في الصعيد جزءا رئيسيا من ثقافة مجتمع متخلف .. ترى الأغلبية العظمى من أبنائه أن الثأر علامة من علامات التفوق والسطوة والهيمنة ، وسببا من أسباب العزة والشرف والبقاء !! .. وكأننا نعيش في دولة بلا قانون ، ووطن دون مؤسسات !! .. وهو ما يجعل لجان المصالحات التي تتشكل بين الحين والآخر مجرد هدنة يستأنف بعدها الطرفان مسلسل الثأر في أغلب الحالات .. لذلك يحتاج الصعيد حاليا قبل أي وقت مضى إلى جهود وتضحيات كل المصريين وادراكهم لكل ما يحيط به من مخاطر وتحديات .. وذلك بالعمل على قطع كل الطرق المؤدية إلى الثأر وإن شئنا الدقة والتحديد فإن هذا الدور الاصلاحي المنشود لهو من صميم اختصاص وواجبات الأزهر الشريف ، ثم يليه مباشرة الاعلام الوطني ، ثم الجمعيات الأهلية ، ومنظمات المجتمع المدني .. لذلك أقترح ما يلي : –

( 1 ) نظرا لما يتمتع به علماء الأزهر الشريف .. من احترام وثقة وقبول لدى ابناء الشعب المصري كله العوام منهم ، والخواص على حد سواء .. يجب إضافة إلى دور الأزهر الشريف .. الدعوي المعروف ، وواجبه الديني في توعية الناس ، وحثهم على تغليب فضيلة العفو والتسامح ، وتحفيزهم على نشر السلام والأمان ، ونبذ العنف والتعصب والعدوان .. استحداث آلية جديدة يصبح بمقتضاها للأزهر الشريف كمؤسسة دينية وعلمية ووطنية كبرى .. دورا اجتماعيا اصلاحيا فعالا يغلب عليه الطابع الشعبي .. لوأد الفتنة في مهدها ، وحل القضايا العالقة ، وتسوية النزاعات الشائكة واحتوائها أولا بأول .. مما يساهم في القضاء على عادة الثأر إلى الأبد ، وتجنيب المجتمع ويلاتها ، أو التقليل من نسبتها ، أو التخفيف من حدتها .
( 2 ) أما منظمات المجتمع المدني ، وكافة الجمعيات الحقوقية ، والمراكز البحثية المختلفة .. التى تعمل في مجال حقوق الانسان !! .. وهى من أجل ذلك تتلقى تمويلات خارجية طائلة ، من هيئات ومنظمات أممية متعددة ، وتستحوذ على امتيازات وتسهيلات داخلية هائلة .. لذلك يجب ألا يكتفي موظفوها بكتابة التقارير ، وعمل الأبحاث ، ووضع الدراسات في المدن الكبرى ، والأحياء الراقية .. ثم يأخذون وضع المتفرج وهم قابعون في مكاتبهم المكيفة في أبراجهم العاجية .. بل لابد من أن يكون لهذه المؤسسات نشاطا ميدانيا ، ودورا تطبيقيا على أرض الواقع .. وذلك بالنزول إلى المناطق العشوائية ، والاحياء الشعبية ، والقرى ، والنجوع ، والكفور في المناطق النائية .. لعمل الاستبيانات والأبحاث والاحصائيات على الطبيعة ، ومعايشة هموم الناس ، والاطلاع على مشاكلهم المزمنة ، والاسهام في تقديم الحلول المناسبة للقضاء عليها ، ومشاركة مؤسسات الدولة في علاج الامراض الاجتماعية الفتاكة .. وعلى رأسها آفة الثأر في الصعيد .

( 3 ) لابد من اجراء التعديلات التشريعية اللازمة لكافة مواد قانون العقوبات ذات الصلة .. وذلك لسد الثغرات التي تشوبها ، وتغليظ العقوبات الواردة فيها ، والتوسع في تفسير وتطبيق الظروف المشددة .. حتى تحقق العقوبة الهدف المرجو منها ألا وهو الردع كي لا يفلت مجرم من العقاب ، أو تصدر ضده أحكام غير رادعة .. بسبب الثغرات الكثيرة في القانون ، والأخطاء الأكثر في تطبيق الاجراءات .. – وأيضا وهذا مهم جدا – لابد من اجراء التعديلات التشريعية اللازمة لمواد قانون الاجراءات الجنائية لاختصار مراحل التقاضي ، وتقليص اجراءات التنفيذ .. التي تستنزف وقتا طويلا يعوق تحقيق العدالة .. فكما هو معروف أن ( العدالة البطيئة ظالمة ) .

( 4 ) كما يجب على الاعلام الوطني أيضا أن يقوم بدوره القومي ، وواجبه المهني .. في تناول هذه القضية الاجتماعية الخطيرة من كافة جوانبها ، وتعريف الناس بمخاطرها ، وتسليط الضوء على مساوئها .. وذلك باستغلال ما يملك من الأدوات ، وتوظيف ما لديه من الامكانيات .. التي تجعله يسهم إلى حد كبير في توجيه الرأي العام ، وصناعة المفاهيم والأذواق .. والمقصود هنا ليس الاعلام المرئي ، والمقروء ، والمسموع فحسب .. بل المقصود هو الانتاج الثقافي بمعناه الأشمل والأعم .. الذي لم يعطي حتى الآن هذه القضية الاجتماعية الخطيرة حقها من الاهتمام الواجب .

( 5 ) أما وزارة التربية والتعليم .. التي تربي ، وتعلم ، وتؤسس ، وتؤهل ، وتبني ، وتصنع ، وتعد ، وتخاطب نصف الحاضر وكل المستقبل .. من الضروري أن تعمل على تضمين كافة المناهج الدراسية خاصة في مراحل التعليم الأولى أبعاد قضية الثأر المدمرة .. لتعريف النشء بتاريخها البغيض ، وأسبابها الرئيسية ، وعوامل انتشارها ، والظروف المحيطة بها ، وآثارها المدمرة ، وطرق محاربتها ، وسبل الخلاص منها ، وأهمية القضاء عليها .. من أجل خلق جيل جديد واعي ، مثقف ، مستنير ، قادر على رفع صوت الحق بالعلم والحكمة والعقل .. في وجه ثقافة الموت والفتنة والقتل ، أو على الأقل تفادي المخاطر المتجددة لرياح هذه العادة الجاهلية المتجذرة ، وتجنب ويلاتها وعواصفها المدمرة .. التي أحالت حياة الأجيال التي سبقتهم إلى جحيم .

وختاما أقول لكافة مؤسسات الدولة وعلى رأسها الأزهر الشريف .. ومن ثم الاعلام وكذلك منظمات المجتمع المدني ، والجمعيات الاهلية ، والمراكز البحثية ، بل والاحزاب السياسية ، والتيارات الدينية المختلفة .. افيقوا يرحمكم الله !! .. لماذا هذا الصمت المريب ؟ .. هل فقدتم الاحساس بالمسئولية ؟ .. ألستم مسئولون عن هذه الرعية ؟ .. هل يليق بتاريخ الأزهر الشريف ورسالته السامية أن يصبح كالشرطة لا يتحرك إلا بعد وقوع الجريمة ؟ .. وهل يليق بعلمائه أن يقتصر دورهم على مجرد الحضور الاعلامي لالتقاط صور تذكارية ، والتوقيع على محاضر صلح صورية لا تساوي ثمن الحبر الذي تكتب به ؟ .. وهل يليق تجاهل الصعيد الذي تنتشر المعابد على امتداده شامخة تتحدى الزمن ، شاهدة على عظمة أجداده ، مؤكدة على أن فجر الحضارة بزغ من ترابه ؟ .. وهل يليق تهميش الصعيد الذي كافح أبناؤه ، وقادوا النضال الوطني على مر العصور ، وكانوا قادة التحرير ورواد التنوير ليس في مصر فحسب بل على مستوى الأمة العربية كلها ؟ .. أم أن هناك خشية من أن ينهض الصعيد فيقود أبناؤه المسيرة ، ويضعون الأمور في نصابها ، ويعيدون الأحوال إلى سابق عهدها .. فيستعيدون أمجاد التاريخ ، ويتقدمون الصفوف كما كان يتقدمها أسلافهم منذ عصر الفراعنة وإلى زمن قريب ؟ .

فالصعيدي كما أخبرنا التاريخ قديمه وحديثه .. حينما ملك أسباب المنعة وحد القطرين ودمج التاجين بالقوة .. وحينما ساد الاضطهاد وعمت الفوضى تزعم ثورة شعبية مكنت محمد على باشا من السلطة .. وحينما منح البعثة العلمية للخارج عاد إلى الوطن قائدا للتنوير ورائدا للنهضة .. وحينما وجد فرصة التعليم أنار بعلمه – وهو الكفيف – الطريق أمام المبصرين .. وحينما عم الظلم وانتشر الفساد قاد الثورة فوحد الصفوف ، وتزعم الأمة ، وأحيا القومية العربية ، وشارك في تأسيس حركة عدم الانحياز ، وأسس منظمة الوحدة الإفريقية ، وساهم في تأسيس منظمة المؤتمر الاسلامي ، وأجلى الاستعمار ، وناهض سياسة الهيمنة الغربية ، ورفض التبعية ، ودعم الثورات العربية ، وساند قوى التحرر في كل مكان ، وأمم قناة السويس ، وبنى السد العالي ، وشيد المصانع ، وحارب الرجعية ، وطور الأزهر الشريف ، وبنى الكاتدرائية المرقسية ، وأقر مجانية التعليم ، وأقام العدل ، وحقق المساواة ، وطبق العدالة الاجتماعية فأنصف الفقراء والمعدمين ، وحدد ساعات العمل ، وأصدر قانون الاصلاح الزراعي فرفع الظلم الذي كان يعاني منه العمال والفلاحين .

التعليقات