مصر الكبرى

08:07 صباحًا EET

الاستفتاء على الدستور ليس حلا

من أسس الديمقراطية حرية التعبير والتظاهر. ولكنها ليست الأساس الوحيد أو الأهم. فهناك أسس ومبادئ وقواعد أخرى، من دون احترامها وتطبيقها تتحول حرية التعبير إلى فوضى إعلامية وضياع سياسي، كما يتحول حق التظاهر إلى غوغائية جماهيرية تهدد السلامة العامة وقد تتحول إلى حرب شوارع أو إلى اصطدامات دامية. وربما إلى ثورة متمادية.

فمن أسس الديمقراطية وقواعدها انبثاق الحكم ومجالس التشريع عن الإرادة الشعبية عن طريق انتخابات نزيهة ووجود دستور يحدد قواعد الحكم والسلطات. ولكن من أهم قواعد الديمقراطية أيضا احترام مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية، وحق تداول السلطة.
وما حدث في مصر منذ سقوط نظام حكم مبارك حتى الآن من عمليات انتخابية ومظاهرات مليونية ومحاكمات وتأليف حكومات وسن قوانين بمراسيم تشريعية، وإعلانات دستورية متتابعة وملغية بعضها للبعض، وأدى إلى اندلاع الأزمة الأخيرة، يصعب وصفه بالديمقراطية أو نسبته إليها. حتى لو أن الحكم الجديد استطاع اجتياز الأزمة والتغلب على معارضيه، فإن الانقسام السياسي بل والوطني – كي لا نقول الطائفي – بات واقعا ملموسا لم تعرف مصر مثله أو في مثل حدته، من قبل.
من المسؤول عن كل ذلك؟ أصابع الإخوان والسلفيين تشير إلى معارضي حكمهم أي المدنيين والعلمانيين والقوميين واليساريين وإلى «الفلول» أي أنصار العهد السابق والمستفيدين منه. وأصابع هؤلاء تشير إلى الإخوان والسلفيين والإسلامويين عموما متهمة إياهم بـ«اختلاس الثورة» ومحاولة الاستئثار بالحكم وفرض مبادئهم الإخوانية على المجتمع المصري. وهناك أصابع تشير، كالعادة، إلى «مؤامرات» خارجية، دولية وإقليمية، لا تريد الخير لمصر ولا نجاحها في استعادة دورها الرائد في العالم العربي. وقد تكون الحقيقة حصيلة اجتماع وتصادم هذه المحركات الثلاثة لكل الأحداث التي تشهدها مصر منذ فبراير (شباط) 2011.
إننا نكتب هذا المقال غداة رفض معظم قوى المعارضة حل «لا غالب ولا مغلوب» الذي وازن بين إلغاء الإعلان الدستوري السابق مع إبقاء موعد الاستفتاء على الدستور الجديد. والمفصل الجديد بات هذا الاستفتاء: هل يقاطعه المعارضون؟ أم يشاركون فيه ويصوتون ضده؟ وكم ستكون نسبة المشاركين؟ وماذا لو كانت النتائج في مصلحة الحكم أو مصلحة المعارضة؟ وماذا سيكون موقف القضاء المصري النهائي من الاستفتاء ونتائجه ومن الإعلانات الدستورية التي أوهنت استقلاليته ودوره في مراقبة السلطتين التنفيذية والتشريعية؟ وماذا يعني القرار الرئاسي الأخير بإعادة بعض الصلاحيات الأمنية والقانونية للقوات المسلحة؟ بل ماذا يعني البيان الذي أذاعته القوات وتحليق الطائرات العسكرية في سماء القاهرة؟
إن الرئيس مرسي لا يتحمل كل مسؤولية ضياع الثورة في دهاليز تنافس الأحزاب والتيارات السياسية على الحكم. ولا يتحملها الإسلاميون، إخوانا وسلفيين وأصوليين، وحدهم. ولكنهم يتحملون الحصة الكبرى من المسؤولية، كونهم كسبوا الانتخابات التشريعية وكرسي الرئاسة. فبدلا من أن يمدوا أيديهم إلى بقية القوى والأحزاب والتيارات السياسية الأخرى، دخلوا في تنافس حاد معها مستأثرين بالحكم. وبدلا من أن يطووا صفحة الماضي – كما فعل مانديلا في جنوب أفريقيا – ركزوا على الانتقام من رموز النظام السابق ومحاكمتهم ومصادرة أموالهم. لقد نال أحمد شفيق 49% من أصوات الناخبين في انتخابات الرئاسة، وهي أصوات لم تدخل فيها أصوات أنصار صباحي وعمرو موسى. فماذا لو فاز شفيق بالأكثرية؟ هل كان الإخوان سيقبلون بهذه النتيجة؟ وهل كانت ملاحقة شفيق، بعد النتيجة التي حققها في الانتخابات، هي خطوة ديمقراطية أو حكيمة أو حتى أخلاقية؟!
لقد نجح الإخوان في القفز إلى الحكم على ظهر الثورة، لسببين: الأول هو تنظيمهم، في الوقت الذي انقسم وتفرق فيه الشعب المصري إلى عشرات التيارات والتجمعات والأحزاب الجديدة والصغيرة والقليلة التوغل في الأوساط الشعبية. والثاني هو أن المجلس العسكري الحاكم مؤقتا آثر التعاون معهم بدلا من غيرهم. ولكن مهما بلغ عدد مناصري الإخوان والسلفيين فإن نسبتهم، قياسا بنتائج الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية، لا تتجاوز العشرين في المائة من الناخبين. إنها نسبة كافية في فرنسا أو بريطانيا، لتسلم الحزب الذي يحوز عليها في الدورة الأولى، الحكم. كما أن الرئيس المنتخب في الولايات المتحدة وغيرها من الديمقراطيات، بفارق صوت واحد، يستطيع أن يحكم. ولكن من الصعب تطبيق ذلك في كل بلدان العالم. وكيف يبدأ الرئيس الجديد حكمه بإحالة منافسه إلى المحاكمة.. ويضطره إلى اللجوء إلى الخارج؟!
أيا كانت نتيجة الاستفتاء على الدستور الجديد، فإن العهد الجديد الذي قام في مصر، سقط في أكثر من امتحان. لقد حقق، ربما، بعض النجاحات على صعيد العلاقات الدولية والقضايا الإقليمية. (قرض البنك الدولي، وقف إطلاق النار في غزة، انفتاح واشنطن عليه)، أما على الصعيد الداخلي، فالمنجزات ليست باهرة، وتقدم البلاد نحو الاستقرار والتنمية والديمقراطية، لم يرتسم ولم يعبد طريقه، حتى الآن.
صحيح أن الديمقراطية هي حكم الشعب لنفسه بنفسه عن طريق الانتخابات والاستفتاءات وتداول السلطة، وفصل السلطات، واحترام حقوق الإنسان وحرية الرأي والإعلام والتظاهر.. ولكنها أيضا وخصوصا، نفسية وذهنية وتربية وأخلاق. وسلوك منطلق من الشعور بالمواطنية وبقيم الحرية واحترام الرأي الآخر، والمساواة في الحقوق بين كل البشر. ومن يؤمنون بهذه القيم، سواء في مصر وفي بلدان عربية أخرى، لا يشكلون، حتى الآن، أكثرية الناخبين، ولن يأتي الاستفتاء على الدستور الجديد بالحل، أيا كانت نتائجه. لسوء الحظ.

التعليقات