كتاب 11

11:38 صباحًا EET

رسالة إلى لص

«سيدي اللص العزيز. أرجوك أن تعيد لي اللقالق النادرة ذات المناقير الوردية التي سرقتها من حديقتي قبل يومين، وسأُعطيك أضعاف ثمنها».

هذا كان نص الإعلان الذي نشرته في الصحف، ذات يوم، مصممة الأزياء الشهيرة مدام كارفن. قرأ الفرنسيون الإعلان وتأكدوا أن المرأة ضئيلة القامة لا تزال على قيد الحياة. كانت فوق الثمانين ولم يُسمع لها حسّ في السنوات العشر التي سبقت سرقة اللقالق. هل استجاب اللص العزيز لرجائها أم أن الحرامية لا يجدون الوقت لمطالعة الصحف؟

غابت عشر سنوات أخرى. ثم قرأنا خبرها قبل أيام. رحلت عن 105 أعوام ونعتتها وزيرة الثقافة بعبارات لا يمكن أن تصدر عن وزير رجل، أثنت فيها على فساتينها المزهرة وعطورها العصية على التقليد، وقالت إنها منحت الموضة نفحة من الطزاجة والحرية. إن السياسيين ووزراء الثقافة لا يفوّتون فرصة لنعي مصممة أزياء أو فنان معروف أو حتى لاعب في السيرك لأنهم، بهذا، يلمّعون صورهم الخاصة. ويوم مات آشيل زافاتا، أشهر مهرج فرنسي، قطعت الإذاعة برامجها وبثت الخبر. ونعاه الرئيس ميتران. أما صور النجوم الراحلين فهي مثل المُجمّدات الحديثة. تلمّع نفسها بنفسها. وهذا ينطبق على مدام كارفن، حاملة أرفع أوسمة الجمهورية الفرنسية التي كان على زبوناتها انتظار خبر وفاتها ليعرفن أن اسمها الحقيقي كارمن توماسو.

والسيدة التي لا يتجاوز طولها الخمسة أشبار، دخلت ميدان الخياطة لكي تصمم ثيابًا للقصيرات. وكان التصميم مهنة رجالية. لكنها ذهبت إلى قريب لها يشتغل رسامًا وتعلمت منه الحيل الهندسية وخطوط التفصيل التي تلعب على البصر فتبدو صاحبتها أطول قامة. ثم قامت الحرب العالمية الثانية وتعثّر مشروعها. فلما انتهت الحرب وعاد من عاد ولم يعد من لم يعد، انطلقت مدام كارفن تقدم للنساء أزياء بسيطة بألوان بهيجة تفرفح القلوب الحزينة. واختارت اللون الأخضر الزاهي رمزًا لها. وقد جاءها بالمصادفة بينما كانت تبحث عن خامات لعملها في وقت كانت فيه الأقمشة شحيحة والإنتاج مخصصًا للجيش. لقد عثرت في مخزن مهمل على لفافات قديمة من قماش مقلم بالأبيض والأخضر، فاستخدمته في خياطة أولى مجموعاتها. هل تذكرون سكارلت أوهارا في «ذهب مع الريح» حين حوّلت ستارة البيت الخضراء إلى فستان فخم؟

لم تنتظر كارفن أن تأتي الزبونات إليها في دكانها بل ركبت دراجتها وراحت توصل تصاميمها إلى البيوت. وفي لقاء معها قالت إنها أعطت أول مقابلة صحافية في حياتها وهي تسوق الدراجة والمحرر والمصور يجريان وراءها. وبعد نجاح رهانها على الفساتين الأنيقة والبسيطة، شدت الرحال إلى بلاد الشرق تبحث عن إلهام مختلف. الهند وماليزيا ولبنان الذي اعتادت التردد عليه وقدمت عرضًا لأزيائها هناك. كانت لها صداقات وطيدة هناك وسمعتها تردد أن الحرب اللبنانية أدمت قلبها.

حين أطلقت أول عطورها، استنبطت له حملة دعائية مدهشة. وكان الفرنسيون يحتفلون في «الشانزليزيه» بالذكرى الأولى لتحرير باريس من الاحتلال الألماني وسمعوا صوتًا في السماء. رفعوا رؤوسهم ووجدوا طائرة عمودية تحلق على ارتفاع منخفض وتلقي لهم بمظلات صغيرة تحمل قناني العطر الجديد «ما غريف». هل هناك، بعد 70 عامًا، من يحتفظ بقنينة فارغة منه؟

في سن متأخرة نسبيًا، تزوجت المصممة التي حملت لقب «أقصر العمالقة». وكان زوج المدام هو هاوي التحف رينيه غروغ، صاحب أكبر مجموعة للوحات التزيينية التي أبدعها فنانو القرن الثامن عشر. وفيما بعد، أهدى الزوجان مجموعتهما التي لا تُقدر بثمن إلى متحف «اللوفر». وبفضل تلك الهدية راح المتحف الباريسي ينافس أصحاب المجموعات المماثلة في العالم، مثل مجموعة «والاس» في لندن ومتحف «المتروبوليتان» في نيويورك. إن العشاق الكبار لا يحتكرون الجمال.

التعليقات