كتاب 11

11:28 صباحًا EET

«البعض» الذى أكرهه

إذا كنت من الأجيال القديمة، حاول أن تبقى بعيداً عن ذهنك ذلك الفيلم الذي ذاع في عام ١٩٥٩ تحت اسم «البعض يفضلونها ساخنة»

(تونى كيرتس، وجاك ليمون، ومارلين مونرو)، لأن كلمة «البعض» هذه كانت في مكانها تماما، وهو أن بعضا فقط يفضلون أمرا على هذه الحالة ساخنا، وذلك لتبيان الاستثناء من القواعد العامة الباردة. مثل ذلك في اللغة مقبول، وغير مكروه، ولكن استخدامنا لـ«البعض» هذه في أمورنا العامة، وفى وسائل الإعلام، هو من ناحية قد فاق الحد، ومن ناحية أخرى طبع على كلامنا فرضا لمجهول يجعل ما نقوله غير جاد. استمع جيدا إلى البرامج الحوارية، وجماعة المتحدثين على الهواء مباشرة خلال النشرات الإخبارية لاستخلاص تعليقات على أحداث جارية نراها أمامنا على الشاشة، وساعتها سوف تجد أن «المذيع» أو «المذيعة» سوف يبدأ حديثه «الاستقصائى» بأن «البعض» يرى هذا أو ذاك، وأحيانا يقال إن «البعض» يعتقد أن «البعض»- طبعا الآخر- مصاب بداء الهلوسة مثلا عند مواجهة «البعض»- في العادة طرف ثالث غير معروف أيضا. لا أحد يريد أن يقول أسماء ويفضل عليها أن يظل الأمر على سبيل الألغاز أو الأحاجى التي على المشاهد أو المستمع أن يخمنها. اللعبة هنا أن تتجنب ذكر من هم هؤلاء «البعض» حتى لا تجبر على سؤالهم أيضا، ومن ثم تجد أمامك بضعة آراء بينما المفروض ألا يكون أمامك إلا رأى واحد أحد حتى لا تحدث البلبلة. ومن الجائز بالطبع أن حكاية «البعض» هذه هي محاولة للهروب من الجهل، فالمتحدث لا يعرف من هم «البعض» ولا «البعض الآخر» ولا حتى ذلك الثالث.

في وقت من الأوقات شاعت الكلمة في الأوراق «الأكاديمية» وأحيانا رسائل الماجستير والدكتوراه، حتى بدأت حملة علمية لمناهضة «البعض»- الكلمة وليس الأشخاص- ومنع استخدامها إلا إذا تمت الإشارة في الهامش إلى مراجع أو أسماء محددة تنضم لهذه الجماعة المجهولة فتصير معلومة. أرجو أن تكون الجماعة الأكاديمية المصرية قد تخلصت من المرض، ولكن الجماعة الإعلامية مصابة بهذا الوباء، وربما الأكثر الجماعة السياسية. العجيب أن الإعلام فيه نوع من الدراما التي تقوم على التناقض، الذي يعنى مواجهة بين رأى وآخر وبينهما رأى ثالث، واتجاه ورؤية أخرى ومنظور ثالث، وهكذا الحال، لأن لكل منها أفراداً وجماعات وحركات وتيارات. والسياسة هكذا حالها وجوهرها أيضا لأنها تتضمن تنافسا وصراعا أحيانا بين فرق وأفراد لكل منها مراجعه. صحيح أن نوعية السياسة التي نعرفها في مصر يغلب عليها الغموض، وذكر اسم شخص ما ربما يصعب أن يعنى شيئا ما لدى القارئ أو المشاهد أو المواطن العام الذي عليه أن يختار. ولكن لهذا كان الإعلام والأحزاب والجمعيات التي تخلق الأسماء والوجوه والشخصيات التي عليها أن تتحمل مسؤولية من نوع ما، واختفاؤها داخل جماعة «بعض» هذه سوف يحكم عليهم دائما بالموت العام المبكر.

معذرة إذا كنت قد تركت أمورا كثيرا مهمة من الإرهاب إلى الأوضاع الاقتصادية وحتى الثورة الدينية لأتحدث في قضية لغوية. ولكن السبب كما نرى فادح وفاضح لأنه إغراق في الغموض في زمن يحتاج أعلى درجات الوضوح. وربما لأن هناك هاجسا لدى أن يكون في الموضوع «ملعوب» من نوع ما وهو أن جماعة «البعض» هذه ساكنة في خزانة «الفيس» بوك حيث توجد ملايين- أحيانا بلايين أو مليارات- التعليقات والآراء ولسبب أو لآخر يعتقد إعلاميون أنه لا بأس من التعبير عن هذا «البعض». في مصر يوجد ما بين ٣٥ و٤٠ مليون مستخدم للكمبيوتر، ولكن ليس كل مستخدم له حساب على «الفيس» أو «التويتر»، وحتى ولو كان فإنه لا يوجد لذلك «حجية» علمية أو سياسية تذكر ما لم يكن المستخدم في الأصل سياسيا أو له صفة وصلة بالموضوع. ذات يوم قال أينشتاين إن هناك أمرين «لا نهاية» لهما؛ الكون وغباء الإنسان. وأضاف: وفى الحقيقة فإنه لدىَّ شكوك حول الأمر الأول!. الاستخدام المفرط لكلمة «البعض» هو برهان على الغباء اللانهائى!

التعليقات