كتاب 11

10:18 صباحًا EET

اللحظة المصرية

فى حياة الأمم والشعوب لحظات فارقة تنطلق بعدها فتحقق فى شهور ما كانت تفعله فى سنوات، وفى سنوات ما كانت تفعله فى عقود، وساعتها يتضاعف

دخلها القومى، وينتقل عدد كبير من الناس من الفقر إلى الستر، وهؤلاء المستورون يدخلون فى صفوف الأغنياء، أما الأغنياء فينتقلون من المحلية إلى الإقليمية أو العالمية. وفى العموم يكبر حجم الطبقة الوسطى، ويزيد مستوى العلم والتكنولوجيا، وينتشر العقل والرشد فى السياسة، ويتكافل المجتمع فى حماية أعضائه وفى خلق المبتكرات والفنون. الوجه الآخر للعملة هنا أن العكس أيضا يمكن أن يحدث؛ حيث يتدهور كل شىء فى المجتمع، وقد تصير الدولة نفسها موضع التساؤل، ومن نجا من الحريق الكبير فربما يصير إلى ركود طويل. كيف يحدث هذا الفارق بين هذا الطريق وذاك، وما الذى يجعل أمة تصعد، وأخرى تصاب بالخوار والهبوط؟ تلك هى المسألة!

الإجابة ليست بعيدة عن الذهن، وسبق أن ضربنا أمثلة من ألمانيا واليابان وغيرهما، وحتى بتجاربنا الذاتية فى فترات متنوعة من تاريخنا القريب والبعيد؛ والخلاصة أن الانطلاق قوامه تضافر مجموعة من العوامل المحفزة فى لحظة زمنية بعينها، مع ظروف خارجية وداخلية مناسبة فيكون الانطلاق أو يكون العكس صحيحا فتكون النتائج من الهوان أقرب. ودون الدخول فى تفاصيل كثيرة، فقد عاشت مصر هذه اللحظة المصرية من الاختيار بعد حرب ١٩٥٦، ومرة أخرى بعد حرب ١٩٧٣، ومرة ثالثة بعد حرب تحرير الكويت ١٩٩١، ومرة رابعة فى عام ٢٠٠٥، وخامسة بعد ثورة يناير ٢٠١١، وسادسة، وهى التى نعيشها الآن، بعد ثورة يونيو ٢٠١٣. «اللحظة المصرية» جاءت ست مرات خلال ستة عقود تقريبا، وفى الخمس الأولى منها اختلطت السنوات السمان، بالأخرى العجاف، وكانت النتيجة دوماً بعضاً من التقدم والتراكم، ولكن المحصلة أن الانطلاق لم يحدث، ولما كان العالم يجرى هو الآخر فإن مكانتنا تراجعت طوال الوقت.

لماذا حرمت «اللحظة المصرية» من الاكتمال؟ يمكن إيجاز ذلك أولا فى فقدان التركيز بعد تحقيق بعض من المكاسب، وحفنة من التقدم حيث تسودنا حالة من الدروشة وتهنئة الذات، وتصيبنا الحالة التى تأتى للفريق القومى لكرة القدم بعد تحقيق هدف فى أول المباراة، أو الفوز بكأس الأمم الإفريقية حتى ولو فشلنا طوال الوقت فى الوصول إلى كأس العالم؛ وحينها يبدأ التدهور حتى لا نصل إلى النهائيات الإفريقية. وثانيا أن هذه الحالة من الزهو تشمل المجتمع كله، ويجرى تصور أن هذه هى ما كانت دائما الحالة المصرية لولا أن حساداً كثراً فى العالم يعرقلون مساراتنا المزدهرة أو أقدارنا الحتمية بالتقدم. وثالثا وسواء عن قصد أو غير قصد، أو نتيجة ميراث ربما يعود للعصور الفرعونية، فإن ما جرى من نجاح لم يحدث إلا نتيجة الخصائص غير العادية للرئيس أو الملك من قبله. الإعلام هنا يلعب دورا حيث يتخلى عن وظيفته الأساسية فى «الإعلام» وينتهى إلى أن يكون أداة للتعبئة بالكلام والأغانى، خاصة عندما تختلط قضية التقدم بالتهديدات الداخلية والخارجية. ورابعاً لم تعرف مصر أبدا فضيلة «الكمون التاريخى» التى عاشتها تركيا على سبيل المثال بين ٢٠٠٢ و٢٠١٢، أو الصين بين ١٩٧٨و٢٠١٠، أو البرازيل أو جنوب إفريقيا أو كوريا الجنوبية أو ألمانيا أو اليابان أو حتى الولايات المتحدة الأمريكية بعد حرب ١٨١٢ ثم بعد الحرب العالمية الأولى. وبالمناسبة، وحتى لا يسىء أحد فهم القصد والنية فإن الكمون التاريخى ليس مثل الانسحاب، أو تجاهل البيئة الخارجية، وإنما هو الاستثمار فى الخارج بالقدر الذى يعين على البناء فى الداخل لا أكثر ولا أقل. وسادسا استسلامنا المروع لما يعرف بقدر «التاريخ والجغرافيا» الذى يخلق «ثوابت» مهمتها الأساسية دوما أن تشدنا إلى الخلف، حتى لو كان القصد أنها تدفعنا إلى الأمام. الغريب أنه فى معظم الأحوال فإننا لم نعرف التاريخ أبدا على حقيقته المرعبة، أما الجغرافيا فإن المعمور منها لم يتعد ٧٪ فى الوقت الذى نتحدث فيه عن «عبقرية المكان» غير المأهول طبعا، والذى لا ينتج من ناحية، ويستدعى الأعداء للهجوم علينا من ناحية أخرى.

الآن لدينا عوامل «لحظة مصرية» جديدة، تواجد فيها قدر من التواضع، فقد ارتكب المصريون أو قادتهم على الأقل خلال السنوات الخمس الماضية من الخطايا ما يكفى الجميع. وما نحتاجه هو القدر العظيم من التركيز على مدى خمسة عشر عاما على الأقل يصبح التركيز بعدها نوعا من الفضائل القومية، فنزيل ركام الثورات، ونحقق الانتعاش الاقتصادى، وننجز العناصر المؤهلة للانطلاقة الكبرى.

التركيز هنا يكون على التراكم القومى فى أمور التنمية الاقتصادية، والسياسية أيضا، وأخيرا الثقافية. الأولى معروفة لأنها سوف تقاس وفق معدلات النمو، والمؤشرات الاقتصادية المعروفة؛ والثانية لا نمارسها عادة، ونحاول الالتفاف عليها ما أمكن، ونكثر من الاستثناءات حتى تحجب عنا القاعدة الأصلية؛ وما علينا هذه المرة سوى الصبر بعد انتخابات المجلس التشريعى؛ والثالثة ربما عرفنا مفتاحها حينما نحتفل كل عام بليلة القدر حيث نقيس المدى الذى وصلنا إليه فى التسامح، والتشدد، والتعصب، إلى آخر القيم التى نتمناها فى «اللحظة المصرية».

جزء من حماية عملية التركيز هذه هو حماية العقل المصرى من «الحروب الفرعية»، السلطة بأن تعرف أولوياتها فلا تخرج عن الهدف بموضوعات قد تكون هامة، ولكنها تجرنا إلى دروب وأزقة نتوه فيها ونتزاحم داخلها فينفد الصبر ويبدأ الشقاق. ولن أعيد مرة أخرى الحديث عن «قانون الإجراءات الجنائية» أو «قانون الإرهاب» فقد قلت كلمتى فيهما مرتين، ولا داعى لمرة ثالثة. إن كليهما يخرجانا من مسار المعركة الأصلية وهى تدمير الإرهاب والمضى فى التنمية فى نفس الوقت. ومن الجائز أن فكرة التركيز هذه تحتاج إلى نخبة استراتيجية مختلفة، تقود بطريقة مختلفة، ويكون تكوينها مختلفا. لا أقصد هنا التقليل من الجهد الفائق الذى يقوم به المهندس إبراهيم محلب ورفاقه، فى زمن صعب يطارد فيه الإنجاز بالإرهاب مرة، والحماقات السياسية والإعلامية مرة أخرى؛ ولكن الحصول على «اللحظة المصرية» لا يكون بوزارة تتعدى الثلاثين وزيرا وهناك على الطريق وزارتان أخريان. أذكر أن تفتيت الحكومة وصل فى الاتحاد السوفييتى إلى أن عدد الوزارات بلغ ٥٥ وزارة، كانت واحدة منها للجرارات الزراعية. طبعا نحن نعرف ما الذى جرى للاتحاد السوفييتى، ولجراراته الزراعية التى لم يشترها أحد، لأن القضية ليست فى العدد وإنما فى السياسات المتبعة.

هل نريد حقا الانتقال من النهر إلى البحر؟ وهل نرغب فى أن تتسم السلطة المركزية بالقدر الأعظم من اللامركزية الذى يجعل المحافظات قادرة على إدارة مدارسها ومستشفياتها وحتى القضاء على «فيروس سى»؟ وهكذا أمور تتطلب تنمية موارد محلية للتعامل مع أقاليم مصر المتنوعة؟ إذا كان الرئيس عبدالفتاح السيسى يريد الإمساك بهذه «اللحظة المصرية» فربما يحتاج لطرح برنامجه الرئاسى مرة أخرى؛ وإذا كان مطروحا تغيير الطاقم بوزارة جديدة فربما يكون موفقا أن نفكر فى الوزارة بشكل مختلف؛ أما إذا كانت الأمور ستسير بما هى سائرة عليه ففى وزارة المهندس إبراهيم محلب ما يكفى وزيادة من جهد وعرق.

التعليقات