كتاب 11

12:10 مساءً EET

عمر وفيردي وقناة السويس

الفن نبض الحياة، روحها التي ترقص وتغني فرحاً في كل مناسبة مهمة. لا ينفصل عن أحداثنا الكبيرة ولا عن يومياتنا العادية، وهو مرتبط بمشاعرنا يحكي عنها ويجسدها بالنغم والكلمة، حين تفيض حباً وتعتزّ فخراً في محطات الانتصار الوطنية.

افتتاح قناة السويس حدث عالمي وانتصار مصري. لم يكن ليكتمل الفرح بهذا الإنجاز العظيم، من دون وجود عمر خيرت بروحه وموسيقاه وشخصه. ولم يكن للاحتفال الفني أن يرتقي إلى مستوى هذا الحدث «العالمي»، من دون عودة جوزيبي فيردي إلى السويس، القناة التي ألّف لها أحد أهمّ أعماله الأوبرالية ولم يستطع أن يزورها.

يوم افتتاح القناة الجديدة شهد العالم حفلاً فنياً راقياً، يليق بمصر وتاريخها كما يليق بالحدث نفسه. الختام المسائي كان مسكاً، ومع احترامنا لكل الفنانين المصريين والعرب، فإن اقتصار الأمسية على مقطوعات للموسيقار عمر خيرت، يرافقه قائد الأوركسترا ناير ناجي، والمشهد الأخير من أوبرا «عايدة»، كان كافياً. حضور أعطى بعداً تاريخياً للحدث، وذكرنا بتاريخ الفن العريق، حيث تمتزج في موسيقى خيرت النغمات الشرقية مع الكلاسيكية الأوبرالية، وتنشر عبقاً من الوطنية والأصالة المصرية في موسيقاه، عنفواناً وحماسة وحناناً، تتراقص معها الروح وتبتهج، فتعرف بحق كيف يمكن للفن أن يرتفع بذوقك وأحاسيسك إلى فوق، تحلق معه وترتقي فوق القشور والتفاهات وكل الطفيليين، وكأنها موسيقى «نبيلة» صافية تجبرك على التفاؤل والفرح، فترى فيها قمة الجمال وترسم لك صوراً وتحدثك عن مصر التي لا بدّ أن تحبها كما هي. 

عمر خيرت قال إن مشاركته في هذا الحفل هي تكريم لمشواره الطويل في الفن. ونحن نقول إن وجود الموسيقار العالمي عمر خيرت ومؤلفاته، وأوبرا «عايدة»، هو تكريم للفن الراقي، وتكريم للملايين الذين شاهدوا هذا الحدث الضخم، وعودة لمكانة الفن المصري إلى المستوى العالمي الذي يليق به، الذي نتمنّى أن يرتقي به أهله، ويحافظوا على «الجواهر الفنية» التي يملكونها، خصوصاً الأوبرا المصرية. وكلنا نحتاج إلى هذه الأصالة الفنية، والدليل أن فيديو عمر خيرت في الحفل، حقق الأعلى مشاهدة على اليوتيوب، وهاشتاغ #عمر_خيرت في المركز الأول على «تويتر». يعني «الجمهور عاوز كده»، يريد الفن العريق ويعرف قدره، ويحتاج إلى من يأخذه إلى هذا العالم. 

أما الموسيقار العالمي جوزيبي فيردي، فكان شريك عمر خيرت في إحياء تلك الأمسية الرائعة، إذ جاء إلى مصر التي ألّف لها دون أن يراها. جاء ليتحقق حلمه بعرض مشهد من أشهر أعماله أوبرا «عايدة». تلك الأوبرا التي كتبها عام 1871، بأمر من الخديوي إسماعيل، خصيصاً من أجل افتتاح قناة السويس، فارتبطت باسم القناة، ولكنها غابت عنها بسبب الحرب، حيث لم يكتمل بناء الديكور، ولم تصل الملابس من باريس، فلم تستطع «عايدة» إحياء حفل الافتتاح، إنما عرضت لاحقاً على مسرح دار الأوبرا، ولم يتمكن فيردي من الحضور. 

بعد 144 عاماً، جاء من يفكر بمستوى الإبداع والرقي نفسه الذي كان قديماً، فأعاد «عايدة» إلى مكانها الصحيح، ليكون مشهد الختام فيها، أي مشهد النصر، مسك ختام افتتاح القناة الجديدة. 

«عايدة» التي جالت مسارح العالم، بوصفها من أهم الأعمال الأوبرالية وأغلاها عالمياً، حققت أمنية الخديوي إسماعيل ومؤلفها فيردي، بعد رحيلهما بسنوات طويلة. الفن خالد، يبقى وتتوارثه الأجيال، يموت مؤلفوه وهو يبقى، يشهد على التاريخ ويرتبط به، يكون هو الحدث أحياناً، أو شريكاً مكملاً وأساسياً لا يستهان به، أحياناً أخرى. «قناة السويس» باقية وشاهدة على كل هذا التاريخ، و«عايدة» شاهدة على تأسيس القناة الأولى والثانية. 

البعض جلس يبحث عن هفوات هنا وهناك، ليسجل نقاطاً سوداً في هذا اليوم التاريخي، لكن الفرح كان أكبر، والحفل نجح في الوصول إلى مستوى الحدث. والفن كان حاضراً، من خلال الكبار والصغار، مع فرق أوركسترا القاهرة السيمفوني، وأوركسترا أوبرا القاهرة، وكورال أكابيلا، وكورال أوبرا القاهرة، وأطفال الأوبرا.

أما عمر خيرت فيستحق أن يتم تكريمه من الدولة المصرية، بإحيائه حفل افتتاح قناة السويس، ويستحق أن تكرمه الدولة أيضاً، بجائزة وحفل خاص به، فأمثاله لا يتكررون.

 

التعليقات