أفضل المقالات في الصحف العربية

10:16 صباحًا EET

مأزق الأنظمة … والمعارضات !

في كل مرة أتابع فيها حوادث المنطقة أضع يدي على قلبي خوفاً على المواطنين الأبرياء، وبينهم أطفال ونساء، أن يتحولوا إلى وقود وأدوات تستخدم لتحقيق أهداف وغايات في نفوس «يعاقيب» هذا الزمان.

فهولاء الأبرياء لا ذنب لهم سوى أنهم ولدوا في هذه البلاد المنكوبة بأساليب العناد والمكابرة والإنكار والتشبث بالرأي وإقصاء «الآخر» وسياسات العنف وكسر العظم ورفض الحوار والحلول الوسط، كما يجري في العالم. ومهما قيل عن الخلفيات والأبعاد والنتائج، فإن هذه السياسات أدت إلى الخراب وضياع الآمال بالحاضر والمستقبل، بينما تغرق الأنظمة في أزماتها، وأولها عدم الاعتراف بالواقع والمتغيرات ومطالب الشباب وإنكار وجود أخطاء وخطايا أدت إلى كوارث.

في المقابل، هناك مصائب موازية سببتها المعارضات وفشلها في توحيد صفوفها والتخلي عن الأنانيات ووضع حلول عملية وواقعية تساهم في إنقاذ الأوطان، وفق مبدأ «إذا أردت أن تطاع، فاطلب المستطاع»، حتى صرنا نسمع أن بعض المعارضات أسوأ من الأنظمة في الأساليب ومضمون الخطاب السياسي الفارغ من أي برنامج عمل واقعي قابل للتنفيذ، بدءاً من شكل النظام البديل ومفهوم الديموقراطية وحقوق المواطن، وصولاً إلى أصغر المطالب (أو بالأحرى أهمها هذه الأيام)، وهي تأمين لقمة العيش وضمان مستقبل الأجيال والشفافية وضرب الفساد ووقف الهدر ونهب الثروات والسياسات الخاطئة التي دمرت البلاد وأفقرت العباد.

وتابعنا أخيراً حوادث لبنان والتظاهرات التي بدأت بشعار «طلعت ريحتكم» احتجاجاً على أزمة النفايات، ووصلت إلى المطالبة بإسقاط النظام، وأطلقت شعارات براقة كبيرة لا تتناسب مع قدرات المتظاهرين ولا واقع لبنان الذي يعاني من فراغ رئاسي وضياع دستوري وشلل تشريعي وحكومي وانقسامات أفقية وعمودية وطائفية ومذهبية وانهيار اقتصادي، إضافة إلى دين عام يقدر بأكثر من ٧٠ بليون دولار، عدا عن الأخطار الخارجية وأزمات الجوار وتهديدات التنظيمات المتطرفة.

وسط كل هذه العوائق والمحاذير، تطلق صيحات «الشعب يريد إسقاط النظام»، من دون أن يحدد أي نظام، في ظل غياب التوافق السياسي والطائفي والمذهبي على أبسط الأمور أو على شكل النظام البديل، ومن وكيف ومتى، وهي الأسئلة البديهية في كل حدث، وسط قناعة تامة بأن المستحيل أقرب منه، إلا إذا كان المقصود تعميم الفوضى وإشعال نار الفتنة والحرب وإلغاء لبنان من الخريطة.

والأهم من كل هذه الأمور، هو عدم التنبه إلى واقع خطير وحساس، وهو وجود أكثر من مليون ونصف مليون لاجئ سوري، بينهم عشرات الآلاف من المسلحين أو المدربين على حمل السلاح، إضافة إلى خطر وجود التنظيمات المتطرفة في مخيماتهم، من دون أن ننسى وجود مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين وبينهم آلاف المسلحين. وفي حال انفجار الأوضاع وحصول فلتان أمني، فإن المصيبة ستكون مدمرة، ولا يبقى بعدها نظام ولا حكومة ولا شعب ولا لبنان الذي عرفناه بلد التعايش والمحبة والحضارة والأمان.

والأكيد أن ما جرى في ساحة رياض الصلح، وما تبعها من اضطرابات وأخذ ورد، شرعي ومفهوم ويعبّر عن واقع الحال المأزوم في كل المجالات وخصوصاً المعيشية منها، كما يعبّر عن خيبات أمل الشباب وآلامهم. وأكثرية المشاركين يمثلون أصحاب النوايا الطيبة، ولكن ما حصل من تجاوزات واعتداءات ممن وصفوا بـ «المندسين والمشاغبين» شوّهت صورة التحرك وأثارت المخاوف من اعتبار ما جرى بمثابة «بروفة» مصغرة لما يمكن أن يحدث لو «فلت الملق» وعمّت الفوضى وتراجعت قوى الأمن بعد تعرضها لاعتداءات مستنكرة.

وكان من المفترض التنبه إلى أخطار التجييش من دون اتخاذ الإجراءات اللازمة لمواجهة المندسين ومنع التعديات على الأملاك العامة والخاصة وقطع الطرق على فئات استغلت الفرصة لإشاعة الفوضى وارتكاب جرائم سرقة وسط شكوك عن نوايا جهات تسعى إلى تفجير الأوضاع وقلب التوازنات وصولاً إلى تثبيت مواقعها. وعلى رغم ذلك، لا يمكن إنكار شرعية المطالب في لبنان والدول الأخرى وأحقية المواطن المحروم من أبسط متطلبات الحياة.

وأول ما تبادر إلى الذهن لمن تابع المجريات خلال الأسبوعين الماضيين، سؤال عن أسباب غياب حكمة العقلاء وضعف مبادرات الإنقاذ عن الساحة في مقابل تصعيد لهجة العنف وتوجيه الشتائم في حق «الجميع» وتعميم تهمة الحرامية والفاسدين على كل مكونات الوطن، ما يذكّرنا بالأمثال العربية القديمة التي نسجتها حكمة الأجداد، ويكفي كل واحد منها للتعبير عن ألف مقال وتصريح يصف الأحوال والممارسات والشعارات المتداولة، مثل: «ما متّ، ما شفت مين مات»، و»من جرب المجرب كان عقله مخرب»، و»اسأل مجرب ولا تسأل خبير».

فالسؤال المهم اليوم، هو: لو نجح المحتجون في تحقيق شعاراتهم التصعيدية، ما هي الخطوة التالية أو ماذا بعد؟ أو «إلى أين؟»، كما يردد الزعيم وليد جنبلاط. فحتى لو استقالت الحكومة، فإنها محكومة بتصريف الأعمال، وبالتالي تعميم الفراغ وإشاعة مزيد من الفوضى وشل الحياة العامة وتخريب الاقتصاد. وحتى بالنسبة إلى ما ردد البعض عن تسلم الجيش، فإن العقبات الدستورية والسياسية كبيرة، كما أن بعض المكونات سترفض لأسباب عدة، من بينها الاعتراض على التمديد لقيادات الأجهزة الأمنية.

وكم كان حرياً بالقائمين على الاحتجاجات أن يضعوا خطة بديلة وخريطة طريق تنسجم مع بنود الدستور وتطالب بتنفيذ خطواتها بالتوافق على الأسس التالية:

– انتخاب رئيس للجمهورية فوراً، وإذا تعذر ذلك يمكن إقرار تعديل بانتخابه لمدة سنتين ليشرف على العملية الإصلاحية.

– استقالة الحكومة الحالية وتشكيل حكومة انتقالية حيادية.

– وضع قانون انتخاب عصري يؤمن التمثيل الصحيح والعادل.

– حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات عامة خلال فترة محددة.

– تشكيل حكومة وحدة وطنية في ضوء النتائج.

– الاتفاق على فترة زمنية محددة تكون بمثابة فترة سماح، أو هدنة يلتزم بها الجميع، لإصلاح الأوضاع ورأب الصدع لإعادة تحصين الاقتصاد الوطني وردع الفساد وحل المشكلات العالقة ووضع خطة لإيجاد فرص عمل والاستجابة لمطالب الشباب والفقراء وإنماء المناطق المحرومة.

– انتخاب رئيس جديد للجمهورية بولاية كاملة.

هذه البنود يجب أن تكون عنواناً لحل تجمع عليه كل الأطراف، بدلاً من التلهي بالشتائم والاتهامات – وقد سمعنا الكثير منها خلال الاحتجاجات، ما شوّه صورتها – واستغلال براءة الغالبية التي يفترض أن يرتقي رموزها الى مستوى الحدث المهم، لكونهم من الفئات المثقفة والجامعية. كما كان من المفترض إدانة كل من يعتدي على رجال الأمن وتشويه صورتهم، وهم في الأساس من الشعب.

كما كان من المعيب الاعتداء على تمثال رمز الاستقلال الرئيس رياض الصلح في ساحته التي تحولت إلى ساحة الانتفاضة. ومن الإجحاف أيضاً توجيه الأحقاد إلى منطقة «سوليدير» (الوسط التجاري لبيروت) التي تحولت إلى مركز لتلاقي الشعب اللبناني في كل المناسبات. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الرئيس تمام سلام، فالتجني عليه خطأ فادح لأنه رجل «آدمي» وزعيم وطني مخلص ونزيه ولم يلوث يديه بآثام الفساد، كما أنه لم يألُ جهداً في الصبر والحفاظ على الوحدة والاستقرار وتحمل الصعوبات والمماحكات الرخيصة والتآمر من تحت الطاولة على رغم سياسة التعطيل التي شلت عمل الحكومة.

ثمة نقطة أخيرة، وهي أن هناك بعض الفئات سعت وتسعى إلى ركوب الموجة واستغلالها لغايات رخيصة أو لفرض مؤتمر تأسيسي ينهي «نظام الطائف» ويرسم ملامح نظام يحقق أهدافها وغايات الأجندات الخارجية، إضافة إلى ما تردد عن ارتباط بعض المنظمين بعمليات تدريب وتأهيل على التعبئة الشعبية عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

عدا عن هذه الملاحظات، يمكن القول بعد أسبوعين من انطلاق الاحتجاجات أن التجربة اللبنانية أعطت المثل لما يجب أن يكون عليه «الربيع العربي» في الانضباط والحماسة والوطنية، باستثناء قلة مخربة، على أمل أن تتعظ بتجارب الدول الأخرى وانتكاساتها وأن تضع خريطة طريق واقعية حتى لا تقع في المحظور، كما جرى في سورية التي مضى على حربها ٤ سنوات ونصف السنة دمرت الأخضر واليابس وركبت موجتها تنظيمات متطرفة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مصر حين «سرق» الإخوان المسلمون ثورة الشباب، فتفردوا بحكم لم يدم لهم بعد تدخل الجيش لإنقاذ البلاد وإعادة تصويب البوصلة، مع التأكيد أن الذين قاموا بالثورة من الشباب وغيرهم أصبحوا خارج المعادلة.

وحتى الآن، لا تبدو في الأفق أي بارقة أمل بالتخلي عن العناد والمكابرة والإنكار من جهة الأنظمة وأسلوب كسر العظم، في مقابل الشعارات العاطفية البراقة وغير القابلة للتنفيذ من جانب المعارضات المتناحرة وغير المتوافقة على خطة موحدة، وبعضها تبدو وكأنها تعمل على هدم هيكل الأوطان على رؤوس الجميع والوقوع في فخ الفراغ ورعب الإرهاب والعنف والفوضى.

فالأنظمة والمعارضات تقف في قارب واحد يشرف على الغرق في حال عدم الدخول في حوار هادف ومخلص وصريح يحبط مخططات تدمير الكيانات وتقسيم الأوطان. ولن تستقيم الأمور وتعود شعلة الأمل إلا بالتحاور والتخلي عن سياسات الاجتثاث والإقصاء والتخوين والبحث عن حلول وسط تنقذ الأوطان وتنهي مأزق الأنظمة والمعارضات على حد سواء، بعدما دفعت بسببها الشعوب ثمناً فادحاً. ولعل الحوار الذي دعا إليه رئيس مجلس النواب نبيه بري يشكل نقطة تحول للخروج من عنق الزجاجة وإيجاد الحلول العملية، ويرسم بداية لحوارات أوسع في الدول العربية الأخرى.

أما سياسة «كسر العظم» واستخدام القوة المفرطة، فقد ثبت أنها غير مجدية لأنها تشبه اُسلوب كاسر مزراب العين، المؤدي إلى الخراب في الحكاية «الرحبانية» التي تروي أن عاشقاً أحمق اختارت محبوبته شاباً آخر في القرية، فقرر الانتقام بتخريب مزراب العين (الينبوع)، ما أدى إلى موت الأهالي عطشاً، وبينهم حبيبته! نجانا الله وإياكم من أمثال هذا الـ «روميو» المدمّر.

 

التعليقات