مصر الكبرى

09:32 صباحًا EET

المجتمعات التقليدية: دروس للعالم

ونحن نستقبل سنة جديدة ضمن العقد الثاني من الألفية الثالثة، ونستمتع بما يتيحه لنا التطور الإنساني من وسائل جديدة وتكنولوجيا فائقة، هناك من يريد انتزاعنا من سيرورة الزمن المعاصر وامتيازاته الهائلة، إلى رحابة الطبيعة وتلقائية الإنسان التي تتيحها المجتمعات التقليدية في بيئاتها البسيطة والبعيدة في الزمن والجغرافيا. هذه الرغبة في معرفة كيف عاشت مجتمعات إنسانية حتى وقت قريب، هي ما يحاول عالم الجغرافيا والخبير في علم الإناسة، "جاريد دايمند"، كشفه في كتابه الأخير "العالم حتى أمس… ماذا نستطيع تعلمه من المجتمعات التقليدية؟"، فمن وجهة نظره لا يعني التقدم المجتمعي دائماً تحقيق الراحة والاستقرار النفسي للإنسان، كما لا يعني ما أحرزته البشرية من إنجازات مادية هائلة، أنها بذلك تكون أفضل من المجتمعات التقليدية، وبالتبعية ليست الحضارة الغربية بمكاسبها العديدة وتميزها العسكري والمادي رديفة التفوق على الآخر مع كل ما يحمله هذا التأويل من نظرة احتقارية للحضارات الأخرى التي تصنف في خانة "البدائية"، لذا يأتي سؤال الكاتب في العنوان عن أوجه الاستفادة والدروس التي يمكن تعلمها من مجتمعات يعتقد البعض أنها غارقة في التخلف والظلام، والحال أنها طورت كل ما تحتاجه للاستمرار في الحياة، ولعل من أبرز ما يدين الحضارة الإنسانية الطاغية اليوم وتركيزها المفرط على التقدم المادي والتطور الاقتصادي ما يعيشه كوكب الأرض من اختلالات بيئية تهدد مستقبل الحياة، فالاستهلاك الشره للموارد الأولية الذي تجاوز الحاجات الأساسية إلى الرغبة في الاحتكار والتصدير، تهدد النموذج الاقتصادي الحالي وتضع الإنسان وجهاً لوجه أمام عملية تدمير ممنهج للأرض والتنوع الحياتي على سطحها.

ويعتمد الكاتب في ملاحظاته بشأن المجتمعات التقليدية على دراسة ميدانية خص بها غينيا الجديدة، ذلك البلد الواقع على جزيرة كبير شمالي أستراليا والذي كان مغلقاً ومجهولاً للعالم حتى بداية الثلاثينيات، عندما بدأت تفد عليه البعثات العلمية لدراسة قبائله والتعرف إلى مكوناته، وقد كان الكاتب من بين العلماء الذين أقاموا في البلد خلال الخمسينيات، وظل لفترة طويلة يعيش بين أبنائه إلى أن تعلم إحدى لغاتهم، وأصبح قادراً على تقديم تجربة المجتمع الغيني للعالم، وهو طيلة مكوثه في غينيا الجديدة واحتكاكه بشعبها، أراد أن يثبت بأن المجتمعات التقليدية لا تقل عن نظيرتها المعاصرة التي يرفض نعتها بالمتقدمة، في تعقيد هياكلها المجتمعية والتنظيمية حسب ما تقتضيه احتياجاتها الواقعية، مستدلاً ببعض الممارسات التي أثبت العلم الحديث أهميتها، مثل طريقة تربية الأطفال عند الجماعات البشرية التي تعتمد على الصيد والتنقل المستمر، فقد لاحظ الكاتب أن التشاركية هي ما يميز طريقة التربية، حيث يتداخل المجتمع كله في رعاية الأطفال دون الاقتصار على الوالدين، كما يوثق الكاتب انتشار عادات صحية في التربية ما فتئ العلم يؤكدها، فليس مطروحاً أبداً في تلك الجماعات البشرية التقليدية فطم الأبناء في سن مبكرة، ولا منعهم من الرضاعة الطبيعية، كما أن العقاب الجسدي الذي ينهى عنه التربويون اليوم لا وجود له في في غينيا الجديدة. وقد فوجئ المؤلف خلال سنواته الأولى في المجتمع الغيني بنظرتهم المتقدمة جداً في التعامل مع الأطفال، إذ يحق لهم التنقل كيفما يريدون والبحث عن الرعاية والاهتمام لدى أفراد الجماعة.
ويضيف الكاتب أن المجتمعات التقليدية تعاملت مع احتياجاتها الأولية بواقعية ودون أدلجة، ومثال ذلك التعامل مع الحاجة للأمن، فالكاتب يرصد حالة من انعدام الأمن بسبب النزاعات المستمرة والثأر الذي تسفك من أجله الدماء، والمنافسة بين القبائل والمكونات المختلفة على الموارد المحدودة، لذا عندما جاء الاستعمار الأوروبي إلى أفريقيا وغينيا الجديدة تعاطى معه الناس بإيجابية لأنه نجح في فرض الأمن والاستقرار وقطع مع الثأر والممارسات العنيفة، دون أن يعني ذلك أن الأهالي تقبلوا السياسة الاستعمارية الرامية إلى استغلال الموارد ونهبها.
ثم ينتقل الكاتب إلى دراسة أحد أهم الملامح التي تميز المجتمعات التقليدية والمتمثلة في التنوع اللغوي والتسامح معه، فخلافاً للمجتمعات المعاصرة التي تعيش في ظل واقع العولمة الكاسحة وما تفرضه من تنميط للأذواق والثقافات على حساب التنوع، تصر المجتمعات التقليدية على التمسك بتنوعها والحفاظ عليه، والتحدث بلغات ولهجات مختلفة.
وفي الأخير يختم الكاتب بتوجيه دعوة إلى البشرية ليس إلى تبني نمط عيش المجتمعات البدائية، بل إلى الكف أولاً عن التعامل معها باستعلاء من منطلق التفوق الغربي الزائف، وثانياً الاستفادة من بعض تقاليدها التي ما زالت صالحة حتى اليوم.

التعليقات