مصر الكبرى

02:05 مساءً EET

هل يتمكن العرب من إعادة إنتاج هوياتهم؟

لو سئل أي فرد عربي عن أفضل الطرق التي تمكن الأمة العربية من إحياء تاريخها واللحاق بالأمم الأخرى في المشاركة بالتقدم العلمي والتنمية لكان الجواب على الفور أن ذلك يكون من خلال تحفيز الهويتين: الإسلامية والقومية العربية.  لقد هيمن الحنين الرومانسي إلى الماضي "Romantic Nostalgia" على الفكر العربي وسيطرت تلك الهويات على العرب بدون أي نقد تاريخي للماضي.  ولكن الحدث الذي كشف حقيقة تلك الهويات وما تتضمنه من أيديولوجيات مهيمنة في تاريخنا المعاصر هو الانتفاضات العربية أو بما يسمى بـ "الربيع العربي".  

الانتفاضات العربية الأخيرة كشفت أن المعوقات التي يواجهها العالم العربي لم يكن سببها الهيمنة الغربية فقط بل أيضا بسبب الأيديولوجية المهيمنة في داخل العالم العربي نفسه.  هذه الانتفاضات أجبرت العرب لمواجهة تحدياتهم الداخلية بعد أن كانت تؤجل في السابق باستمرار بحجة مواجهة الاستعمار والامبريالية والصهيونية، الخ.  لأول مرة في تاريخ العرب الحديث أصبحت المعركة الداخلية بنفس أهمية المعركة الخارجية.  لقد أدرك الكثير من العرب الآن على أنهم لم يكونوا ضحايا الغرب فقط بقدر ما كانوا ضحايا للسلطات الفاسدة والاستبدادية التي كانت تتحكم بحياتهم لعقود من الزمن.  ولهذا الكثير من العرب الشباب رددوا تلك الشعارات أو المتطلبات باستمرار خلال الانتفاضات: "عيش"، "حرية"، "عدالة اجتماعية".  هذه الشعارات يجب أن تكون مصدر إلهام للمثقفين والتنويريين لتجديد الهويات العربية للتمكن من تحقيق تلك المتطلبات.     
بعد كل عصر جديد وخصوصا بعد الثورات في تاريخ العرب، كان الأصوليون الإسلاميون دائما يدعون بقدرتهم على إحياء العهد الذهبي الإسلامي وأنهم قادرون على تحقيق متطلبات الشعب.  وفي حالة اقتناع العرب الشباب بأن هويتهم الإسلامية ستوفي متطلباتهم، عليهم أن يتحققوا عن نوعية التيار الإسلامي الدي سيطبق.  هل هو التيار الإسلامي المستنير لدى الإمام محمد عبده، جمال الدين الأفغاني أو الشيخ الأزهري علي عبدالرازق أم هي الحركات الأصولية المنغلقة فكريا لدى حسن البنا المتمثلة في جماعة الإخوان المسلمين وكما هي في السلفية.  الحركات الأصولية لن تخلق سوى عصر جديد من الدكتاتورية الاستبدادية والتي بدورها ستكون أسوء من الدكتاتورية العسكرية لأنها تمنع أي مساءلة بسبب الدين والتجاوزعلى الذات الإلهية وبالتالي يتم خلق أيديولوجيا داخلية فاشية مهيمنة.  بدأت تتضح معالم تلك الأيديولوجيات المهيمنة من خلال حكم الإخوان المسلمين في مصر وتونس الآن. ولكن قمة الخطر تكمن لو سيطر هذا التفسير المنغلق للشريعة الإسلامية في مصر على الأزهر الشريف المعروف منذ فترة طويلة أنه منارة اعتدال في المنطقة.  خطورة سيطرة تلك الجماعات المتطرفة على الأزهر ستكون أكبر بعد الموافقة على مسودة الدستور الذي يعطي الأزهر صلاحية استثنائية لإصدار حكم بشأن القوانين الدينية للبلاد.  لذلك يجب حماية الأزهر من أي هيمنة متطرفة.  كما ينبغي التركيز على الدراسات للمفهوم الإسلامي المستنير الذي يرتكز على العقل والمنطق وروح النقد وهذه كلها يجب أن تكون دعائم الهوية الإسلامية.  العالم العربي بحاجة إلى الإسلام المستنير وليس الإسلام التكفيري الذي يدعو إلى القتل ونبذ كل ماهو مختلف مرتكزا على فتاوى فوضوية أساسها الجهل والتخلف الفكري. لذلك طالب محمد أركون ،المفكر الجزائري والباحث الأكاديمي في الدراسات الإسلامية، بتدريس العقل والمنطق والعلوم الإنسانية في الجامعات الإسلامية للتخلص من الطائفية والتفسير الأبوي المهيمن للإسلام.    
في ضوء الانتفاضات العربية الأخيرة الهوية الأخرى التي تحتاج إلى إعادة النظر هي القومية العربية.  ظهرت القومية العربية بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر كرد فعل على الهيمنة الخارجية في محاولة لخلق نظام اجتماعي جديد على أسس إسلامية.  اعتقد المصريون والسوريون وهم رواد القومية العربية بإنشاء أمة عربية متحدة تحت عقيدة واحدة بغض النظر عن اختلاف الأعراق والأديان والمذاهب في المنطقة. القومية العربية هي في الأساس علمانية وتبلورت كحركة سياسية من قبل ميشيل عفلق وهو سوري مسيحي أحد مؤسسي حزب البعث الذي أصبح فيما بعد حزب البعث العربي الاشتراكي في عام 1940.  على الرغم أن عفلق كان مسيحيا إلا أنه أكد أن العلاقة بين القومية العربية والإسلام جوهرية. الفكرة الأساسية أنه لا يمكن فصل الإسلام عن القومية العربية ولكن يجب فصل الدولة عن المؤسسات الدينية.  
عندما تولى جمال عبدالناصر الحكم في مصر عام 1952، أصبحت مصر الموطن الروحي للقومية العربية ولكن على مدى السنوات لم تحقق هذه الهوية أي شيء يذكر فهي لم تحرر الأمة العربية من الهيمنة الغربية كما أنها لم تنتج الحرية، التنمية والديموقراطية التي كانت تتمناها الشعوب وخاصة الشباب.  وصف عالم الاجتماع المصري سعد الدين إبراهيم الدول العربية موطن القوميات العربية أنها لم تفعل شيئا غير أنها أنشأت "جملوكيات" فهذه الكلمة تجمع بين الجمهورية والملكية تصف بدقة تلك الجمهوريات التي أنتجت رؤساء فاشيين كصدام حسين وبشار الأسد.  استخدم قادة تلك الجمهوريات القومية العربية كأداة للشوفينية العنصرية دفعوا بها الشعوب إلى التركيز على العدو الخارجي أو الاستعمار وتجاهل حق تلك الشعوب في الحرية والديموقراطية.  وفي الواقع ينبغي أن تكون القومية العربية مشروع تنويري يؤمن بالتعددية وينبذ التمييز في اللغة والعرق والجنس والدين.  ذكر فؤاد عجمي، كاتب سياسي لبناني وأستاذ جامعي في دراسات الشرق الأوسط في جامعة جونز هوبكنز الأمريكية، أنه قد تم قبول القومية العربية بطريقة عمياء وغير مدروسة حتى أصبحت ألعوبة في يد الطغاة.
في عصر الثورات أو الانتفاضات العربية يجب أن تكون الهويات العربية مصدرا للتنوير وينبغي ألا تكون بمنأى عن النقد.  هذه المرحلة من النقد الذاتي يجب أن تسبق أي بناء أو البحث عن البديل.  فلا يمكن بناء نظاما جديدا في بلاد الثورات بدون ترميم النظام القديم الفاسد.  كان الكثير من العرب مخطئين في الماضي باعتقادهم أنه يمكن تجاهل النقد الداخلي عن طريق استيراد النماذخ الجاهزة من الخارج ولكن أصبح من الواضح الآن أن لا مفر من مواجهة المعركة والانتقادات الداخلية.  جميع تلك الأفكار التي كانت تنادي باستيراد النماذج الجاهزة، مثل النموذج التركي، لن تنجح بدون نقد العرب لهوياتهم العربية لكي يتمكنوا فهم أبعاد وفلسفة تلك النماذج بدلا من مجرد التقليد الأعمى.  لقد تعلمنا من التاريخ أن تطبيق النماذج الجاهزة وفي نفس الوقت الحفاظ على التفسير القديم الظلامي للهويات العربية عملية غير ناجحة.  
العالم العربي يجب أن يمر بمراحل عديدة للوصول إلى الهدف المنشود المتمثل في الديموقراطية وتحقيق متطلبات الثورات العربية وهي: "عيش"، "حرية"، "عدالة اجتماعية".  هذه المراحل تشمل التنوير من خلال إعادة تعريف الهويات والتحرر من التمييز في اللغة والعرق والجنس والدين.  هذه المراحل يجب أن تكون قبل تطبيق آليات الديموقراطية لأن التجارب أثبتت أن الشعوب الغير ناضجة قد تصوت لمرشح على أساس طائفي أو عرقي تحت اسم الديموقراطية.  في الواقع النظم الليبرالية سبقت النظم الديموقراطية في أوروبا الغربية.  ففي بريطانيا، التي لديها أقدم نظام ديموقراطي في العالم، كانت دولة دستورية ليبرالية طوال القرن التاسع عشر ولم تصبح ديموقراطية بالكامل حتى عام 1930 أما فرنسا لم تصبح ديموقراطية إلا في عام 1945 أي 150 سنة بعد الثورة الفرنسية.  لا يمكن للعرب المرور بتلك المراحل وتعلمها إلا إذا أدركوا أنهم بحاجة للنقد الذاتي والكف عن إلقاء اللوم في كل شيء على الخارج ومن هنا يأتي دور التنويريين العرب بالتقرب لعامة الشعب واستخدام لغة بسيطة يفهمها الجميع.  
للإجابة على السؤال إذا كان يمكن للعرب بإعادة إنتاج هوياتهم، الجواب هو نعم ولكن بشروط ومعالجة معينة.  ينبغي تحرير الهويات العربية من العنصرية والقبلية والطائفية كما ينبغي أن ترتكز على التنمية والتعددية من أجل تلبية مطالب الثورات والانتفاضات العربية.  إضافة إلى ذلك على التنويريين والمثقفين العرب بإعادة صياغة الهويات العربية لكي تتناسب مع عصر الحريات ونقلها بطريقة مبسطة للشعب من خلال وسائل الإعلام، المؤسسات التعليمية كالمدارس والجامعات ومن خلال التعامل المباشر مع كافة طبقات المجتمع.  بناء علاقة وطيدة بين التنويريين وعامة الشعب يساعد على تأسيس جبهة قوية لمكافحة الحركات الأصولية المتخلفة.  إن لم تتم تلك المعالجة من الداخل فعلى المدى البعيد تلك الديموقراطيات العربية لن تكون سوى غوغائية عربية وما يسمى بـ "الربيع العربي" لن يكون سوى "الجنون العربي" أو "الجحيم العربي".     
نجاة السعيد باحثة في الإعلام والتنمية في جامعة ويستمنستر  في لندن.   

التعليقات