مصر الكبرى

11:27 صباحًا EET

ليالي الشيراتون وفنون التحرّش

أصبحت أسماء الفنادق الفخمة بمثابة اللعنة التي تُلحق أذى كبيرا بأسماء من يسكنها من السياسيّين فيفقدون لاحقا مناصبهم ومراتبهم بطريقة مدوّية تشبه انهيار بعض الأسهم في مقدمة لإفلاس أصحابها. وسواء نتج ذلك السقوط عن تقارير صحيحة أو مؤامرات أو الاثنين معا، فالمهمّ يبقى في النهاية النتيجة لأنّها المراد والهدف. ولنا في قصّة الفرنسيّ دومينيك ستروس كان مثال للعواقب المدمّرة التي انجرّت عن إقامته في فندق سوفيتل بنيويورك بعد أن اتّهمته عاملة الغرف بالتحرّش الجنسيّ.

في تونس، بدأت فضائح الفنادق بشكل محتشم عندما واجه الوزير حسين الجزيري على قناة التونسيّة قايد السبسي ‘بفضيحة مناشف الحمّام التي سرقها أتباع حزبه خلال إقامتهم في فندق بجزيرة جربة’. وكان ذلك ليلة اجتماع سياسيّ عزمت حركة نداء تونس على عقده، وفشلت في ذلك بعد احتجاجات ضدّها على خلفيّة اتهام السبسي بتعذيب اليوسفيين، والزعيم بن يوسف جربيّ المَولد. قال له الجزيري: ‘أتباعك سرقوا مئات المناشف وأجهزة تلفزيون من غرف الفندق وأنت دفعت تعويضا حتّى لا تصل الفضيحة إلى القضاء’… وكانت المواجهة من الطرافة بمكان فأثثت منابر التواصل الاجتماعي بالنوادر الساخرة، واستعرت حرب التهكّم بين أنصار النهضة وأنصار نداء تونس. ومع مطلع العام الجديد، اختفت قصّة المناشف وحلّت مكانها ‘فضيحة الشيراتون’ قياسا على فضيحة السوفيتل شكلا ومضمونا. فمن حيث الشكل، يمكن الحديث عن التماثل في الأسماء والصفات إذ يتعلّق الأمر لدينا بفندق فخم هو الشيراتون، ورجل سياسة هو وزير الخارجيّة رفيق عبد السلام، ومن حيث المضمون أعلنت المدوّنة ألفة الرياحي اتهامها للوزير بالفساد المالي تصريحا وبالفساد الأخلاقيّ تلميحا’وطالبت بتتبعه قضائيّا… ومن حيث النتيجة، يصعب الدفاع عن حظوظ الوزير في البقاء بوزارته ونحن على أبواب تحوير حكوميّ سيعلن قريبا، ولكنّ أصواتا من النهضة تؤكّد تحييد وزارات السيادة وبذلك قد يبقى. أما عن الرابط بين الفضيحتين، فضيحة المناشف وفضيحة الشيراتون فلا دليل لدينا على وجوده، (فلسنا من الصحفيين المتخصّصين في الاستقصاء). وفي غياب المعلومات عمّا حدث في الكواليس لتعقّب الوزير ومعاقبته، يبقى الأمر لدينا محض صدفة كالصدفة التي حملتني إلى القاهرة منذ شهور فأقمت في نزل السوفيتل، أثناء مشاركتي في ورشة لتطوير مناهج تعليم اللغة العربيّة بالمدارس الفرنسيّة. وقد رحّب بنا إخواننا المصريّون بحرارة داخل الفندق وخارجه لأنّ تونس صدّرت ثورتها إلى مصر فخلّصتها من حكم مبارك. ولكنْ سرعان ما خَفَتَ ذلك الترحيب في الفندق الفخم بسبب بُخلنا الشديد فلم ندفع البقشيش بسخاء للعمال الذين عزفوا حتّى عن الابتسام في وجوهنا وندموا على منحنا غرفا تفتح على نهر النيل. ونحمد الله أنهم لم يتفطّنوا إلى الصنيع الذي اقترفه أحد زملائي أثناء وجبات فطور الصباح، فقد كان يضع بعض المأكولات في محفظته الصغيرة ليأكلها عندما يجوع أثناء جلسات العمل. وكنتُ أنهره عن ذلك فلم ينته وكان يدعوني إلى الأكل ففعلت. وهكذا فإنّ الفضائح كأصحابها درجات من البسيط الأدنى إلى الأعظم والأعلى درجة كما خلقنا الله، وكما قال في كتابه العزيز: ‘نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتّخذ بعضُهم بعضًا سخريّا’ – الزخرف-.
مسخرة الشيراتون
على الفضائيات التونسيّة والأجنبيّة، تحوّل موضوع الشيراتون إلى مسخرة، فما زالت القضيّة تُسيل الحبر واللعاب معا. أمّا الحبر فللكتابة وأمّا اللعاب فللإثارة. ووسائل الإعلام في أيّامنا تخلط هذا بذاك، وبعضها لا يبحث إلاّ عن الأخبار المثيرة لغايات ماديّة ‘مشروعة’، (ولكلٍّ شِرْعَتُه ومنهاجه). ولأنّ المتلاعبين يتحرّشون بالكتّاب حسب هواهم فيحرّفون الكلِمَ عن مواضعه، فإنّنا ندعو الله أن يحفظنا من تلاعبهم خدمة لمآرب سياسيّة لا نريد الانخراط فيها. ومع ذلك، لم يسلم أحد من التحرّش في هذه القضيّة. فقد شمل الفتاة المدوّنة والوزير وقريبته والقضاء والحكومة والإعلام… ولعلّ بعض الأذى سيصيبنا من قارئ لا يتحرّى فيقع في الأحكام المتسرّعة. فما نكتبه في هذه الزاوية هو من قبيل الكلام على الكلام، وهو صعب كما قال أبو حيّان التوحيدي في كتابه الإمتاع والمؤانسة. وأرْجَعَ أسباب ذلك إلى ‘التعصّب والمحك، لأنّ صاحب هذين الخُلُقيْن لا يخلو من بعض المكابرة والمغالطة’. ويقصد التوحيديّ بعبارة المحك ‘الإكثار من اللجاج والجدل بالباطل’… وقضيّتنا التي اصطلح عليها ‘بالشيراتون غيت’ (Sheraton Gate) ما زالت تتفاعل وفيها متعصّبون وماحِكون ومكابرون من الجانبين. وكان الله في عون القضاء الذي سيواجه قريبا جبلا من الشكاوى. فكلّ المتكلّمين الذين دُعوا إلى برامج التوك شو، هدّدوا برفع القضايا ضدّ خصومهم. فالمدوّنة ألفة الرياحي سترفع قضية بالوزير وبالوزارة وبالغنوشي وبكلّ من هاجمها على الشبكة وبمحامي الوزير الذي رفع بدوره قضيّة ضدّها وضدّ مدير الفندق… وقريبة الوزير رفعت شكواها ضدّ الرياحي التي ‘أساءت إلى سمعتها وسمعة أهلها’… أما وزير الخارجيّة، فسيرفع قضايا لا حصر لها مستنجدا بفريق من المحامين البريطانيّين الذين سيترافعون ضدّ وسائل الإعلام لأنها ‘نشّرت أخبارا أساءت له ولأسرته دون التثبّت والرجوع إليه أو إلى وزارته’. ومجموعة ‘الخمس وعشرون محاميا’ التي تلاحق الفساد والفاسدين تنذر الوزير برفع قضيّة عاجلة إن لم يعجّل بإرجاع الأموال المدفوعة مقابل قضاء الليالي الستّ أو السبع (ففي العدد تضارب واختلاف). وأنا أخشى أن أخطئ بكلمة في هذه الفقرة فأُجَرْجَرَ إلى المحاكم مع المُجرْجِرين والمُجَرْجَرين، بسبب الجرجرة في الكلام التي تكشف ما يعتمل في دواخل النفس.. واللافت أنّ كلّ القضايا رُفعت بتصريحات على قنوات التلفزيون قبل الوصول إلى أروقة المحاكم. والمشهد برمّته مطمئن رغم ما يظهر فيه من الاحتقان والتشنّج لدى بعض المتعصّبين الماحكين. فتونس بخير ما دام الصحفيّ يلاحق المسؤول بوثائق لا تعجبه، ومادام الإعلام يحاسب الحاكم، وما دام القاضي يسائل الجميع ويحكم بالعدل. وفي انتظار الأحكام وما سيعقبها من اللجاج، سأنصرف إلى قراءة كتاب ‘الإمتاع والمؤانسة’، وهو محصّلة سبع وثلاثين ليلة قضاها أبو حيان التوحيدي’في مجالسة الوزير أبي عبد الله العارض حول موائد العلم والمعرفة. فوزراء الأمس كانوا يجالسون الكتّاب ويسمعون منهم، ووزراء اليوم (مجبرون) على مجالسة رجال الأعمال الأثرياء في الفنادق الفخمة، فالكتّاب لا يدخلونها إلاّ نادرا أو صدفة أو على وجه الخطأ.ومن نصائح التوحيدي التي يحتاج إليها وزراء هذا الزمان قوله منبّها:’من لم يطع ناصحه بقبول ما يسمع منه، فقد خسر حظّه في العاجل، ولعلّه يخسر حظّه في الآجل’. ولذلك ننصح الوزراء ونوّاب الشعب بالنوم في بيوتهم حفاظا على الأموال والأصول، ولهم من قصّة الفرنسي ستروس كان والسوفيتل عبرة ودروس، فقد خسر الرجل وظيفته المرموقة في البنك الدوليّ وخسر حظّ المشاركة في انتخابات الرئاسة الفرنسيّة لينطبق عليه قول التوحيدي في حديثه عن خسارة الحظّين العاجل والآجل. وكتاب التوحيديّ ممتع كما يدلّ عليه عنوانه، وقضاء ليلة في قراءته خير من ألف ليلة وليلة في السوفيتل أو الشيراتون، والله أعلم.

التعليقات