كتاب 11

07:41 صباحًا EET

النصر على الفاشية

كل الفلسفات الفاشية الشمولية تحمل فى طياتها «الفيروس» الذى يؤدى إلى فنائها فى النهاية، فهى لا تستطيع أن تقبع فى مكان وتنتظر وتبنى طاقتها وقدراتها، فهى دوما كانت فى عجلة تاريخية للسيطرة والهيمنة واستعباد الآخرين. ولديها فى أكثر الأحيان قدرات استثنائية على أن تزيد عدد أعدائها وتقلل من أصدقائها وحلفائها.

«هتلر» لم يقنع باقتسام بولندا مع الاتحاد السوفيتى، فقرر غزو الدولة الشيوعية، رغم كل نصائح جنرالاته بأنه لا يستطيع الحرب على جبهتين، وأنه سوف يدفع موسكو إلى أحضان الحلف الغربى، وهو ما جرى. حلم الدولة الآرية العنصرية النقية لدى النازية، وعودة الإمبراطورية الرومانية لدى موسيلينى لم تكن أحلاما، وإنما حقائق يمكن انتزاعها بالقوة المفزعة، والاعتقاد الذى لا يهزه شىء أن النصر مكتوب فى اللوح المحفوظ، ولا رادَّ لقضاء الله.

 

الفاشيون اليوم فى دولة «الخلافة» وجماعة «بيت المقدس» و«بوكو حرام» و«القاعدة» و«الإخوان المسلمين» ومَن هم على شاكلتهم لديهم ذلك الاعتقاد فى حتمية النصر، والمَنَعَة الكبرى أمام الدنيا بأسرها. الاعتداءات الإرهابية الأخيرة فى باريس تعكس بقوة نفس الحماقة، فهى تضم صفوف دول وأحلاف وجماعات فى قوة هائلة لن يكون للإرهابيين قِبَل بها. كثير من التناقضات الحادة آخذة فى الذوبان بين روسيا وأمريكا، وبين السعودية وإيران، وبين العرب والغرب، الكل جاءوا فى قوارب متفرقة، ولكنهم جميعا يجتمعون تدريجيا فى سفينة واحدة هدفها مواجهة أول الأخطار العظمى فى القرن الواحد والعشرين. لم يعد أحد على استعداد أن تكون البشرية والإنسانية رهينة الحداثة التى جعلتها تعيش المدن الكبرى، وتسافر من مطارات عظمى، وتتحرك فى اقتصاد كونى، وكأنما نجحت البشرية فى مد قدراتها الناعمة، لا لكى تكون تقدما للجنس البشرى، وإنما لكى تكون أهدافا سهلة للإرهاب.

 

ولكن- وكما هو معروف- فإن لكل حرب ثمناً، وكما هى العادة، فإن فداحة الثمن تجعل هناك كثرة من المترددين. مرة أخرى بزغت الفاشية والنازية بوضوح فى أول عقد الثلاثينيات من القرن الماضى، ومع ذلك فإن أحدا لم يأخذهما بالجدية اللازمة. كان هناك فى أمريكا مَن اعتقد أن هذه معضلة أوروبية، وعلى أوروبا أن تتعامل معها. وكان هناك فى موسكو مَن اعتقد أن ذلك تناقض جوهرى فى الدول الرأسمالية لعله يؤدى إلى تصفيتها والخلاص منها. وكان هناك فى الدول العربية، وربما آخرون من الدول المستعمَرة، مَن اعتقد أن صعود ألمانيا وإيطاليا هو وسيلة الخلاص من بريطانيا وفرنسا. وفى ذلك الوقت، كما هو الحال الآن، كان هناك ليبراليون «حقوقيون» يظنون الفاشية وليدة الظلم والقهر الذى تعرضت له ألمانيا وإيطاليا، ومعهما بعد ذلك العسكرية اليابانية. لم يلتفت أحد إلى أن كليهما يتناقض حتى الأعماق مع الاشتراكية، وليس لديه إلا الاحتقار للنظم الديمقراطية، والازدراء للدول والأمم غير الآرية، والموت والاستعباد، استنادا إلى الجنس والعرق والدين واللون. هذا التردد لم يقطعه إلا تحذيرات من أفراد مثل تشرشل، لم يسمعها أحد فى أولها، ولكن سرعان ما تكفلت الفاشية والنازية بالأمر فيما قامت به من غزوات فى أوروبا واستيلاء على النمسا، والابتزاز مع تشيكوسلوفاكيا فى ميونيخ، حتى كان غزو بولندا، فكانت الحرب العالمية الثانية.

 

كان الثمن فادحا، ولكنه كان ضروريا. والآن فإن تردد أمريكا فى وضع جنود على الأرض، واعتقاد كثيرين فى الغرب أن المشكلة فى جماعة دول إسلامية لا تعرف كيف تدير أمورها، واعتقاد كثيرين لدينا فى الشرق أن المعضلة تكمن فيما لدينا من نظم، كل ذلك لم يعد له ما يبرره، فالإرهاب لم يفرق بين بلد ديمقراطى وآخر سلطوى، ولم يميز ما بين بلد غنى وآخر فقير، وفى كل الأحوال فإنه لم يطرح فكرة أكثر من الخوف، فلا نُبْلَ هناك من أى نوع، ولا قصد عظيما بأى شكل، لا شىء سوى الفزع والقتل.

 

لقد سبق، وفى مكان آخر، أن كتبت عن «الحرب العالمية الثالثة» لوصف الحرب على الإرهاب، واليوم، فإن البابا الكاثوليكى فرانسيس استخدم نفس التعبير. وهنا فى مصر فإننا كنا نعرف كل ذلك منذ البداية، ومبكرا تحدثنا عن «مؤتمر دولى ضد الإرهاب»، وعن أن الحرب ضد الإرهاب ليست مسارح عمليات متفرقة بين العراق وسوريا، وباكستان وأفغانستان، وسيناء والقرن الأفريقى، ونيجيريا وأفريقيا جنوب الصحراء، والآن أوروبا من الأطلنطى إلى الأورال، إنما هى مسرح عمليات واحد. فى هذا المسرح لابد أن نعرف الكثير عن الإرهابيين، وعن ظاهرة الإرهاب، المكان والزمان وأساليب التجنيد، والفكر الذى يُكبر فى فرح ساعة قتل أو ذبح الأبرياء. السؤال الدائم فى الفكر الاستراتيجى هو: ما نهاية كل ذلك، أو كما يقال End Game؟ لا وجود له سوى التدمير الكامل للخصم، لأن مشروعه هو التدمير الكامل لكل البشرية. الفاشية، والفاشية الدينية، لا تقبل بأقل من الانتصار الكامل، وفى ذلك يوجد مربط هزيمتها الكاملة.

التعليقات