كتاب 11

11:20 صباحًا EET

«كتير كبير» البساطة وخفة الظل وينتظر الجائزة الكبرى فى «أجيال»!

شىء ما من الشاعرية وكثير من خفة الظل مع قدر لا بأس به من التشويق، تبدو وكأنها وصفة سهلة لصناعة فيلم ناجح إلا أن الحقيقة تؤكد أن تلك هى الصعوبة بعينها، كل الأفلام فى العادة ترنو وتلهث وراء تلك الوصفة السحرية والأغلبية منها يخفق، وعدد لا بأس به يغرق فى بحر الظُّلمات والقليل فقط فى العالم كله هو الذى يصل إلى بر الأمان ليستقر فى قلوب الناس.

المخرج ميرجان بوشعيا قدّم فيلمه الروائى الطويل الأول «كتير كبير» اللبنانى القطرى إنتاجياً، الفيلم مصنوع بدرجة عالية من الحرفية والتمكن ولكن فى نفس الوقت لا تستشعر أبداً أن المخرج يصنع فيلمه عامداً متعمداً بقدر ما هو ينساب بين يديه رغماً عنه، وأظنه المرشح الأول والأوفر حظاً لنيل جائزة «بدر» فى مهرجان «أجيال» بالدوحة.

كان مشروع تخرجه وهو كالعادة فيلم قصير ولهذا أطلق عليه كنوع من السخرية فيلم «كتير كبير»، وعندما أصبح هو مشروع فيلمه الروائى الأول وأحاله بالفعل «كتير كبير»، أقصد فيلمًا طويلًا بالمقياس الزمنى، آثر أن يحتفظ بالاسم الأول أيضاً.

الفكرة عاشت طويلا فى فكر ووجدان المخرج، حيث إنه أيضاً شارك فى كتابة السيناريو مع ألان سعادة، وشارك فى المونتاج مع سيمون الهبر، ومن الواضح أن الفكرة برقت فى أعماقه ثم حان وقت انطلاقها وكأنها دفقة إبداعية واحدة، خرجت من قلبه لتستقر فى قلوبنا، السيناريو الملىء بالتفاصيل يحرص على أن يصدر لنا أنه لا يقول أى شىء جاد بينما فى حقيقة الأمر هو لا يقول لنا سوى كل الأشياء الجادة، العائلة المكونة من الأشقاء الثلاثة المترابطين، يريدون أن يعلنوا التوبة الجماعية ولهذا يُقدِمون، وكالعادة فى مثل هذه الأفلام، على تنفيذ صفقة العمر ببيع أكبر كمية من المخدرات وبعدها مباشرة الاعتزال، إنها عائلة مترابطة ومُضحية تعمل فى بيع البيتزا، ولكنْ مع تلك الأكلة الشهية من الممكن أن تدفع أكثر لتحصل على جرعة منتقاة من الهيروين مخبأة فى العلبة وكأنها الكاتشب والمايونيز بعيداً عن أعين الدولة التى لن تشك طبعا فى «البيتزا».

الخط الدرامى العام، كما ترى، تقليدى جداً وسبق أن شاهدناه فى عشرات الأفلام هنا وهناك، وآخرها مثلا «أولاد رزق» لطارق العريان، فهم كانوا أيضاً أسرة ولديها زعيم مسموع الكلمة، الأكبر عمراً، ولكن قبل أن تصدر الحكم انتظر قليلاً وتأمل، كيف أضاف المخرج الكثير من الخطوط الدرامية الموازية وليست الثانوية ولكنها تتوازى مع الخط الرئيسى، ليضرب درامياً وفكرياً فى كل الاتجاهات، لديك مثلاً السينما اللبنانية كطرف مؤثر من خلال اختيار خط لمخرج تسجيلى يتعامل مع محل «البيتزا»، نشاهده وهو يُجرى لقاءً مع مخرج لبنانى قديم يحكى التاريخ السرى- غير المعروف والمتداول- للسينما اللبنانية، فهى واقعياً واكبت ميلاد السينما فى العالم فى وقت مبكر، وكان للبنان، ولاتزال بالطبع، مشاركات فى المهرجانات الكبرى، وآخرها «كان» 2015، حيث حصدت جائزة السعفة الذهبية للفيلم القصير «موج 98» للمخرج إيلى داغر. هذا التاريخ المرصع بقليل من الجوائز، والملىء أيضاً بخيبات الأمل المتعددة، وأهمها أنه لا توجد صناعة سينمائية بالمعنى الصحيح للكلمة فى لبنان، كان أحد محاور الفيلم.

الشخصية الدرامية التى تؤدى دور المخرج تُقدم كشخصية محورية خارج نطاق الأسرة ولكن ارتباطها بالأحداث يظل ممزوجاً درامياً بكونه مخرجاً، حيث إننا منذ المشهد الأول نراه فى المنزل وندرك من خلال تفاصيل دقيقة فى تنفيذه للفيلم التسجيلى الذى يتناول تاريخ السينما فى لبنان كيف أن المخرج لا دراية حقيقية له بفن السينما، ولا يمتلك مقومات المخرج فى القيادة والتوجيه لفريق العمل، وهنا يصبح تواجد شخصية المخرج فى مقدمة الكادر ضرورة لا غنى عنها، كما أن عمقها الدرامى تم التمهيد له من خلال عملية التهريب والتى ارتكزت على أن الأشرطة السينمائية لا يتم خضوعها للأجهزة الكاشفة الكهربائية فى المطارات، حيث إنها تعمل بالضوء، وهذا يفسد التسجيلات على الأشرطة، وهكذا تبرق بداخل الشقيق الأكبر للعائلة، وهو الزعيم المتهور، الفكرة لتهريب المخدرات داخل الأشرطة السينمائية، ولا يجد سوى هذا المخرج الذى يتعامل مع محل «البيتزا»، ولهذا يفكر فى صناعة فيلم ساذج، المخرج يقدم لجمهوره تلك المفارقة، وهى كيف تصنع فيلمًا فهو، أقصد المخرج، يريد أن يسخر مما رآه ويعرفه وربما عاناه من مؤثرات متعلقة بصناعة الفيلم السينمائى، وهى بالمناسبة لا تختلف عما نعرفه ونعايشه فى السينما المصرية.

لا يتوقف خيال المخرج عند تلك القضية ولكنه يتناول أيضاً تفاصيل صناعة الفيلم وكيف أن المنتج فى لحظات يشعر بأنه المسؤول والمسيطر على كل التفاصيل، بينما المخرج مغلوب على أمره، حيث يخفت تماماً وجود المخرج فى موقع التصوير ويصبح المنتج هو الأعلى صوتاً، الواقع يفرض نفسه والأحداث تنتقل بتلقائية وانسياب ورشاقة وخفة ظل درامية وسينمائية إلى آفاق أبعد وأرحب فى العلاقة الاجتماعية مع السينما والجمهور، مثلاً الحجاب أثناء التصوير عندما يحتج فى مشهد تمثيلى أحد أبطال الفيلم داخل الفيلم على الحجاب، نسمع صوتاً من الشارع لمواطن تصادف تواجده فى موقع التصوير، يرفض مجرد الاحتجاج حتى ولو كان فى فيلم، يعتبر أنه لا يجوز أساساً مناقشة فكرة ارتداء الحجاب، حتى ولو كان مشهداً تمثيلياً، أيضاً الأديان وزواج المسيحى من المسلمة والعكس صحيح، حتى التفجير الذى لا يعبر سوى عن غياب الأمن، إلا أنه وجد له أيضاً صدى ما فى الإعلام وهم يبحثون عن السبب، واعتبر المنتج أن هناك من يُعادى أفكاره السينمائية، وأنه يتعرض لمكيدة كونية، ولهذا يُصدر نفسه من خلال «الميديا» كمناضل بالكاميرا. الفيلم يضرب فى عدة اتجاهات سياسية واجتماعية وأمنية وإعلامية، الكشف والفضح هو واحد من أهم أسلحته، والفيلم السينمائى الهزلى هو الخيط الذى يربطنا بالجريمة لنكتشف أن الجرائم المسكوت عنها هى تلك التى نراها فى الحياة قبل الشاشة، وما أشبه ما رأيناه فى بيروت بما يجرى فى قاهرة المعز، وما أشبه تواطؤ الإعلام فى التستر على تلك الجرائم هنا وهناك.

التعليقات