مصر الكبرى

12:17 مساءً EET

تـأملات في مآل «الربيع العربي»

إن نظرة واحدة في عديد من البلدان العربية وعلى رأسها "بلدان الربيع" كافية لأن تصيب أي عربي بقلق عظيم على حاضر أمته ومستقبلها، وإذا بدأنا بـ"بلدان الربيع" باعتبار أن ما جرى فيها قد أطلق شرارة محاولات التغيير فسنجد أن الأوضاع في أي منها لم تستقر على حالٍ يتلاءم والشعارات التي رُفعت في بداية "موجات التغيير". صحيح أن تونس ومصر قد حققتا خطوات ما على صعيد بناء "الدولة الجديدة"، ولكن من الواضح أن هذه الخطوات لا تحظى بتوافق وطني. أما اليمن فلم يزل بعيداً عن البدء في عملية بناء مؤسسات ما بعد الثورة، وما زال الحوار الوطني يدور حول قضايا شائكة دون أن تتوافر لأطرافه القدرة على الخروج من هذا المأزق. أما ليبيا فلم تستقر الأوضاع فيها بعد، وتبدو الدولة متفككة الأوصال إلى حد بعيد. وأخيراً فإن سوريا لم تصل إلى نقطة انتصار الثورة أصلاً، ومن المرجح أنها ستمر بالأعراض نفسها التي مرت بها "بلدان الربيع" التي سبقتها في لحظة انتشار الثورة.

ولا يقتصر الأمر على "بلدان الربيع" فحسب، بل إن محاولات التغيير ما زالت تجري في بلدان أخرى دون أن تصيب حظاً من النجاح حتى الآن كما هو الحال بالنسبة لكل من الأردن والكويت، بالإضافة إلى بلدان تعاني أوضاعاً مضطربة، سواء بسبب تداعيات "الربيع العربي" أو من دونها، وعلى رأس هذه البلدان لبنان الذي تأثرت الأوضاع فيه بشدة بسبب انعكاسات ما يجري في سوريا منذ قرابة العامين عليه بالنظر إلى انقسام الشعب اللبناني -وفقاً لاعتبارات طائفية بالأساس للأسف- ما بين مؤيدين للنظام السوري الحالي على أساس أن ما يجري في سوريا ليس إلا مؤامرة خارجية على "سوريا الصمود والممانعة"، ومعارضين له انطلاقاً من أن الأحداث السورية تشير إلى ثورة شعبية حقيقية على نظام مستبد أمعن في الاستخفاف بالشعب السوري ومقدراته. أما العراق فهو يعاني حالة عدم استقرار مزمنة يشهد عليها كثير من العنف منذ الغزو الأميركي وحتى الآن، ولا يوجد ضوء يشير إلى قرب خروجه من هذا النفق المظلم.
وتعتبر الحالتان التونسية والمصرية ذواتا دلالة خاصة في هذا السياق، خاصة أن ظروفهما متشابهة إلى حد بعيد قبل الثورة وبعدها، فقبل الثورة عانى البلدان نظامين شديدي الاستبداد، وإن تميزت مصر بحرية ملحوظة لوسائل الإعلام غير الحكومية، وكذلك تشابه نمطا النمو الاقتصادي فيهما بمعنى القدرة على تحقيق نمو رأسمالي تابع استفادت بعوائده في الأساس طبقة من كبار رجال الأعمال، وبدرجة أقل بما لا يقارن مع سكان العاصمتين، وبعض المدن الكبرى، ما أبقى الغالبية العظمى من الشعبين في حالة فقر مدقع. أما بعد الثورة فقد حقق البلدان خطوات على طريق بناء "الدولة الجديدة"، ففي تونس أجريت انتخابات لاختيار الجمعية التأسيسية لوضع الدستور، وتتولى السلطة التشريعية في الوقت نفسه، وتم التوصل إلى "ترويكا" تولى بموجبها رئاسة الوزارة رئيس ينتمي إلى حزب "النهضة"، وذهب منصبا رئيس الجمهورية ورئيس الجمعية التأسيسية إلى ممثلين لأكبر قوتين سياسيتين أخريين أسفرت عنهما انتخابات الجمعية التأسيسية، وهو ما يمثل اختلافاً واضحاً عن التجربة المصرية التي انتهى بها المآل إلى تولي رئيس الجمهورية المنتخب السلطة التشريعية، بالإضافة إلى سلطاته التنفيذية الواضحة، فضلاً عن محاولته التأثير على السلطة القضائية أيضاً. ومع ذلك فقد تمثل التشابه الواضح بين التجربتين في أن الحزب الديني الأم فيهما (النهضة في تونس والحرية والعدالة في مصر) قد حقق الأغلبية النسبية في الانتخابات بما يزيد على 40% من المقاعد في الحالتين.
وفي الوقت نفسه يتشابه البلدان في مواجهة تحدي السلفية المتشددة التي يبدو أحياناً أنها تربك الحزب الديني الأم، ولكنها أحياناً أخرى تبدو مصطفة معه على الأقل في مواجهاته الحاسمة مع القوى المعارضة له. وكذلك يتشابه البلدان أيضاً في عدم القدرة بعد مرور سنتين على الثورة على الخروج من عنق الزجاجة الاقتصادي، بل إن تجربتهما معاً تشير إلى الإخفاق -وربما عدم الرغبة- في الانقلاب على السياسات الاقتصادية للنظامين السابقين التي كانت تداعياتها دون شك واحداً من الأسباب الأصيلة للثورة. وأخيراً وليس آخراً فإن البلدين يشهدان تزايداً في الفجوة بين الحكم والمعارضة، ويأخذ هذا شكل اللجوء إلى الميدان -حيث يمكن إعادة صياغة موازين القوى- وليس إلى المؤسسات التي بات يسيطر عليها الحزبان الدينيان الحاكمان.
ويعني ما سبق أن "الربيع العربي" لم يحقق من أهدافه إلا جزءاً قد يكون الأقل أهمية، وهو تغيير النخبة السياسية الحاكمة. أما إحداث تغيير جذري في الحياة السياسية والاجتماعية فما زال أمراً بعيد المنال، بل إنه قد يكون خارج أولويات "حكومات الربيع". ويشير هذا إلى خلل ما في آليات التغيير الذي هدف إليه "الربيع العربي"، وقد يكون هذا الخلل متمثلاً في أن القوى التي لعبت دوراً أكبر في الثورة لم يكن يجمعها تنظيم واضح الملامح، ومن ثم فقد تبعثرت في أعقاب إطاحة رموز النظام القديم، وانفردت القوة الأكثر تنظيماً -وهي الأحزاب الدينية في حالتنا- بالساحة، وتبدو هذه الأحزاب فاقدة للرؤية في مجال استكمال التغيير المطلوب، بل إن ثمة شواهد قوية على أنها غير راغبة فيه أصلاً، بالإضافة إلى ما اتضح من أنها لا تملك قيادات قادرة على الدفع بعجلة التنمية والإدارة السليمة للدولة. ويشير هذا بوضوح إلى أنه لا يكفي في حالات الرغبة في التغيير أن تولد الطاقة المطلوبة، وإنما يتعين توجيهها في المسار السليم.
ونتيجة لهذا كله، فإن ثمة سيناريوهات متشائمة للمستقبل، وأخطرها أن تؤدي هيمنة فصيل بعينه على الساحة السياسية في ظل غياب ضمانات ديمقراطية كافية، أو حتى القدرة على تحقيق إنجازات اقتصادية واجتماعية تقنع قطاعات من الشعب بأن تحسناً ما قد طرأ على أوضاعها، أن تؤدي إلى مزيد من الأزمات بين الحكم والمعارضة وعدم الاستقرار الناجم عن ذلك، ما قد يهيئ الظروف -في مصر على الأقل- لتدخل القوات المسلحة والعودة إلى نقطة الصفر، وربما يلقى هذا التطور غير الديمقراطي تأييداً واضحاً من نخب بعينها وقطاعات شعبية ملت من عدم الاستقرار والتدهور المتزايد في مستوى شعبيتها، وقد يقال بحق إن التغيرات الكبرى تحتاج وقتاً لإنجازها، وهذا صحيح، ولكننا للأسف لسنا في إطار التركيبة الحالية إزاء تغيرات كبرى اللهم إلا فيما يتعلق بإحلال نخبة حاكمة محل أخرى. كما أن "الربيع العربي" قد انطلق من أوضاع متردية أصلاً، ومن ثم فإن طول المدة المطلوبة لإنجاز التغيير قد يؤدي إلى احتقانات شعبية تدخل بنا في حلقة مفرغة. وثمة مشكلة لا تقل خطورة، وهي أن هذه العثرات في مسار "الربيع العربي" تأتي في وقت تتعاظم فيه التحديات الخارجية، سواءً على صعيد تغول المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين مع التعثر التام لما يسمى بمفاوضات التسوية، أو على صعيد التهديد الإيراني لبلدان الخليج العربي، خاصة والوطن العربي عامة،. فهل نستوعب الدروس، ونتحسب للمخاطر القادمة؟

التعليقات