مصر الكبرى

02:02 مساءً EET

كراهية الشعوب لأمريكا : لماذا ؟

(1)
زرت الولايات المتحدة منذ 1985 نحو أربعين مرة … وغطت هذه الزيارات نحو نصف الولايات كما غطت معظم الجهات. ويمكن ان اقول ان محاور زياراتي كانت هى المدن الست التالية : نيويورك وواشنطون دي. سي وبوسطون وهيوستن ودالاس وسان فرانسيسكو … فى هذه الزيارات تعاملت (ابان رئاستي لواحدة من اكبر شركات البترول متعددة الجنسيات) مع قيادات  نفطية كبيرة عديدة فى ولاية تكساس … وزرت وتحدثت فى اكبر مراكز بحوث (  ) للدراسات السياسية والإقتصادية بكل من واشنطون دي. سي ونيويورك ، كما حاضرت (او تحدثت) بأكثر من عشرين جامعة مثل برينستون وكولومبيا وكاليفورنيا بيركلي (وغيرها) … كما استقبلت فى وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي ولجنة الحريات الدينية بالكونجرس … وأيضا  صدرت طبعات من بعض كتبي فى الولايات المتحدة (فى مدينة بورتلاند بولاية أوريجون). وطالما فكرت مليا فى احد الأسئلة التى ما اكثر ما سمعتها فى حياتي وهى : لماذا يكره كثيرون حول العالم الولايات المتحدة ؟ …  وكنت أسمع هذا السؤال وبعقلي العديد من علامات الإستفهام . فمعظم الشباب فى أكثر المجتمعات بغضا للولايات المتحدة يحلمون بالهجرة لها ولأن يصبحوا أمريكيين ! ودقائق من الحوار مع هؤلاء الكارهين لأمريكا تثبت ان معظمهم "شديد الإعجاب" بكل من "الحلم الأمريكي" و "الحريات العامة فى الولايات المتحدة" وخضوع الكل للدستور والقوانين ، وأيضا ب "قيمة المواطن الأمريكي" كإنسان …  كانت كل هذه الإعتبارات تمر أمام عيني عندما أسمع عبارات الكراهية والبغض للولايات المتحدة من الكثيرين فى شتي بقاع العالم ومن اشخاص يمثلون كافة الأطياف السياسية والإقتصادية والإجتماعية والتعليمية والمعرفية والثقافية …  وكنت أيضا أذكر نفسي بأمرين … الأول هو ذلك البعد من ابعاد الطبيعة البشرية والذى يجعل الأدني يبالغ فى إنتقاده للأكثر تقدما وثراء … والثاني ذلك الرصيد من "البغض اليساري" لأمريكا … وجدير بي انا بالتحديد ان أعرف طبيعة وخامة ومصادر واهداف هذا "البغض اليساري" انا الذى كانت اول مؤلفاته هى ثلاثة كتب عن الماركسية ! والحق اقول ، ان شيئا من كل ما ذكرت لم ينجح فى حضي على ان اشارك هؤلاء الكارهين للولايات المتحدة مشاعرهم ، فأكرهها كا هم يفعلون . إذ ان من العسير علي ألا أري اوجه التفوق الأمريكي فى عشرات المجالات أو اتجاهل العناصر التى تجعل جل من يكرهون امريكا يحلمون بالهجرة لها وبأن يصيروا هم أنفسهم من مواطني الولايات المتحدة … كما انه من العسير على رجل يعرف دقائق تقنيات علوم الإدارة الحديثة ألا يكون معجبا بآليات عمل وابداع وتفوق الكيانات الإقتصادية الأمريكية او ألا يكون معجبا بما تحدثه الجامعات الأمريكية من ارتقاء للعلم ولحياة البشر … ومع ذلك ، فإنني لا أستطيع أن أنكر وجود والحاح وقوة السؤال الهام : لماذا تحظي الولايات المتحدة بكل هذه الكم من الكراهية تقريبا من معظم البشرية !   وخلال سنوات العقد الأخير (2001 – 2010) بدأ (فيما أظن) السبب الحقيقي لهذه الكراهية يظهر امامي بوضوح … فأتتبعه وأتأمله وأفحصه ، فيزداد يقيني بأنه هو بالفعل السبب الحقيقي لهذه الكراهية ، وان كان احدا لم يعبر عنه بالوضوح الذى آمل ان انجح فى توفيره فى هذا المقال

(2)
استطيع اليوم وبعد الخلفية التى صورتها فى القسم الأول من هذا المقال ان ألخص علة كراهية مليارات البشر للولايات المتحدة الأمريكية فى عجز قيادات المجتمع الأمريكي عن اعتبار  "قيم المجتمع الأمريكي" جزءا متكاملا عضويا من "المصالح الأمريكية" . فالولايات المتحدة التى تخدم سياساتها الخارجية "المصالح الأمريكية" لم تدرك منذ صارت الولايات المتحدة الأمريكية اكبر قوة على سطح الأرض عشية استسلام اليابان فى اغسطس 1945 ان "قيم المجتمع الأمريكي" لابد وأن تكون ضمن بل وعلى رأس قائمة "المصالح الأمريكية". وقد ساعد على استفحال هذا الفصام بين "القيم الأمريكية" كل من العوامل التالية : (1) البرجماتية (الطبيعة والروح العملية البحت) التى يتسم بها العقل الأمريكي (2) افتقار العقل الأمريكي النسبي للحس التاريخي وللحس الثقافي لأسباب تاريخية وجغرافية لا تحتاج لتوضيح (3) غلبة الدافع المالي على الثقافة الأمريكية ….   ولكن وكما قال فولتير فإن الحماقة تظل حماقة ولو كررها الف الف انسان ! وقد كانت حماقة السياسة والساسة الأمريكيين منذ اغسطس 1945 ان احدا لم يقف ويصيح : يا سادة ! قيمنا هى اهم مصالحنا … والإنفصام الكائن بين قيم المجتمع الأمريكي ومصالحه ليس هو مصدر هذه الكراهية فقط ، بل وسيجلب على الولايات الأمريكية من المضار ما سيضر ابلغ الضرر بمصالحها بالمعني الضيق الذى لا يفهم الساسة الأمريكيون حتى اليوم غيره ! فكيف نفسر لأي انسان علاقة الإدارات الأمريكية لسنوات مع حكام جمهوريات الموز فى امريكا اللاتينية ؟ وكيف نفسر لأي عاقل الصمت الأمريكي المخزي تجاه انتهاكات حقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الأقليات فى المجتمعات الحليفة للإدارات الأمريكية ؟ وكيف نفسر لأي انسان معرفة الإدارات الأمريكية بقصص فساد مرعبة لشركاء لها حول العالم ، وصمت هذه الإدارات لعقود عن هذا الحالات المذهلة من الفساد ؟ وهل مما يتسق مع "القيم الأمريكية" التحالف التكتيكي منذ اكثر قليلا من ثلاثين سنة مع اسامة بن لادن لمحاربة الإتحاد السوفيتي فى افغانستان ؟ وهل مما تجيزه الأنساق القيمية للمجتمع الأمريكي مساعدة نظم ثيوقراطية قرو أوسطية مناهضة لكل قيم الحداثة للوصول للحكم فى بلدان مثل تونس ومصر ؟ … بإختصار : كيف نبرر لمليارات البشر ان امريكا ترضي لشعوب غير امريكية بما لا تقبل 1% منه لمواطنيها !؟ من هنا تنبع الكراهية والتى هى بالقطع مبررة . والغريب ان الدوائر السياسية الأمريكية لا تري هذه الهوة بين ما يقبل فى الخارج ولا يمكن قبوله فى الداخل ، وانها لا تري ان هذا يفرز موجات عاتية من الكراهية للولايات المتحدة ، وأنها لا تري ان قيم المجتمع الأمريكي يجب ان تكون ركن الأساس للمصالح والسياسات الأمريكية ، وان اخراج قيم المجتمع الأمريكي من قائمة المصالح الأمريكية ستجلب مضارا هائلة وخسائرا بالغة الجسامة للمجتمع الأمريكي .

التعليقات