مصر الكبرى

08:21 صباحًا EET

القمة الاقتصادية العربية أمام المتغيرات

تنعقد القمة العربية التنموية: الاقتصادية والاجتماعية الثالثة بعد أيام قليلة وكأنها حدث عادي من الأحداث اليومية التي لا تستحق اهتماماً خاصة من قبل الرأي العام، أو حتى من قبل أصحاب الاختصاص ومن المعنيين بمستقبل المنطقة . وتبدو هذه الصورة مغايرة إلى حد بعيد لصور القمم التي تلتئم في مناطق وأقاليم أخرى من العالم، فتستأثر باهتمام الرأي العام وتطغى أخبارها ومشاغلها على المشاغل الأخرى كافة . فعندما تنعقد قمة الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، يكون هناك تطابق بين أجندتها وبين الموضوعات التي تشغل المواطنين وتسترعي انتباههم ومناقشاتهم وحواراتهم في كل بلد من بلدان الاتحاد . وعندما تنعقد قمة آسيان أو “ميركوسور”، يتابع المواطن في الدول الأعضاء باهتمام أحداثها وقراراتها، وتكون لقراراتها أصداء يمكن رصدها في الأسواق التجارية وبيوت السياسة والثقافة والفكر .

هذه الظاهرة ليست لها علاقة بمكانة الدولة التي تستضيف القمة التنموية العربية الثالثة، فالرياض اليوم هي عاصمة السياسة والاقتصاد الإقليميين . وما يجري فيها من أحداث مهمة تتردد أصداؤه في المنطقة وخارجها . إلا أن لهذه الظاهرة علاقة بطبيعة الأحداث الاقتصادية والسياسية العاصفة التي تعانيها العديد من دول العالم الكبرى والتي تلم بالمنطقة . إن القمم تقترن عادة بنشدان الرفاه والتقدم والتنمية، وتصبح محط اهتمام كل من يأملون أن تسير بلادهم على هذا الطريق . ولكن عندما يشعر الفرد بأن مصيره الشخصي أصبح مهدداً، كما هو الأمر في بلدان عربية، فإن انشغاله بالأمن يتقدم على أي أمر آخر مهما علا شأنه، كما قال تاسيتوس مؤرخ الإمبراطورية الرومانية .
من الطبيعي أن يفهم المعني بمصير المنطقة وبمشاعر سكانها هذه الحقيقة، ولكن مع الأخذ بعين الاعتبار العلاقة بين الأمن والاقتصاد التي أكدتها المتغيرات العربية خلال العامين المنصرمين: إنه لا أمن للمواطن ولا استقرار للشعوب من دون التحسن الملموس في أوضاع المنطقة الاقتصادية والاجتماعية، وبأنه، في المقابل لا تحسن في هذه الأوضاع ما لم يترسخ الاستقرار المستند إلى مشاركة المواطنين في حكم بلادهم وتسيير أمورها .
بالعكس، فإن هناك شعوراً قوياً في المنطقة وخارجها، بأنه إذا لم تعالج الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والسياسية الراهنة في الدول العربية التي تعرضت لرياح التغيير، فإن المعارك المأساوية المتفاقمة في سوريا اليوم والاضطرابات التي تشهدها دول أخرى مثل اليمن والسودان والصومال يمكن أن تنتقل، بشكل أو بآخر، إلى تلك الدول . كذلك هناك شعور ينتشر عند الكثيرين بأنه إذا لم تسرع الحكومات العربية الخطى في إصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، فإن المنطقة سوف تضطر، شاءت أم أبت، إلى استيراد الأزمات الاقتصادية المالية الدولية التي يعانيها العالم الأطلسي بصورة خاصة . هل يمكن لمصر اليوم أن تستقر وأن تنجو من الأزمات والمصاعب الدولية والإقليمية والمحلية من دون معالجة أوضاعها الاقتصادية التي بلغ فيها معدل الفقر العام 70% بين السكان، وانحدر معدل نموها الكلي من 5 و6% إلى 1%، وانخفض احتياطي العملة فيها من 36 مليار دولار إلى 28 مليار دولار ومعدل العجز في ميزانيتها والديون العامة المترتبة عليها إلى ما يفوق التريليون جنيه مصري، وذلك كما جاء في الإحصاءات الرسمية بعد أشهر قليلة من الثورة؟
يعتقد كثيرون أن هذه الأوضاع ما كانت لتصل إلى هذه الدرجة من التدهور في الدول العربية لو أنها تمكنت من تحقيق مقدار من التعاون في ما بينها . خلافاً لموجبات هذا الاعتقاد، فإن القوى الدولية التي تملك نفوذاً واسعاً في المنطقة العربية عملت على إجهاض مشاريع التعاون الإقليمي كافة مثل “مركز تموين الشرق الأوسط” الذي أنشأه البريطانيون خلال الحرب العالمية الثانية من أجل تلبية حاجات القوات الحليفة وحاجات المواطنين التموينية خلال المعارك الحامية التي كانت تدور في مصر وليبيا . لقد حقق المركز نتائج باهرة حتى إذا انتهت الحرب وحاول المصريون تعريبه اصطدموا بواشنطن التي كانت ترغب في فتح أبواب الدول العربية للصادرات الأمريكية .
استمر هذا الموقف الأطلسي تجاه مشاريع التعاون العربي حتى اليوم . فالدول الأطلسية سعت إلى إجهاض أي مشروع للتعاون الإقليمي تستبعد منه “إسرائيل” مهما كان  حجمه وتأثيره . غير أنه من الملاحظ أن هذا الموقف الصارم بات عرضة لمراجعات متفرقة تقوم بها بعض الهيئات والأطراف الأطلسية والدولية . من هذه المراجعات دراسة مهمة اعدها “مركز التجارة الدولي” في جنيف بالتعاون مع جامعة الدول العربية . تلاحظ هذه الدراسة ضعف مستوى التعاون الإقليمي في المنطقة العربية وتعدّه واحداً من ادنى المستويات في العالم هذا رغم التماثل الثقافي الكبير بين مجتمعات المنطقة، فمستوى التعاون بين الدول العربية لم يرتفع عن 10% من مجمل تجارتها الخارجية، في حين أن التعاون التجاري بين دول رابطة “آسيان” وصل إلى 23% أي ضعف حجم التجارة البينية العربية، بينما وصل التبادل التجاري بين دول الاتحاد الأوروبي إلى 60% من مجمل تجارتها الخارجية .
وتلاحظ الدراسة أنه رغم التقدم الذي أحرزته الدول العربية لجهة إزالة الحواجز الجمركية في ما بينها، إلا أن التجارة البينية العربية تتراجع باستمرار منذ منتصف التسعينات تقريباً أي منذ إنشاء منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى . تعيد الدراسة هذه الظاهرة إلى العقبات غير الجمركية التي تشكل العقبة الأكبر في وجه تنمية العلاقات التجارية بين الدول العربية . إذا تمكنت الدول العربية من التغلب على هذه العقبات وإزاحتها من وجه التجارة بينها فإنها تستطيع أن تزيد حجم التجارة البينية إلى 20%، كما تقول دراسة “مركز التجارة العالمية” وتستطيع أن توفر مليوني فرصة عمل للشباب العرب .
جدير بالقمة الاقتصادية الثالثة أن تنظر في هذه المعطيات، وأن تتأكد من دقتها وصوابها، وأن تأخذها بعين الاعتبار إذا شاءت أن تبني استراتيجية تنموية حقيقية للمنطقة . إن البديل عن هذا الطريق وعر للغاية كما نلمس يومياً عندما نطل على الأحداث المأساوية التي تمزق بعض المجتمعات العربية .

التعليقات