مصر الكبرى

02:04 مساءً EET

الغرب والإسلام المعتدل في العالم العربي

منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر وحتى أحداث الثورات العربية والغرب تسيطر عليه فكرة دعم الإسلام المعتدل في المنطقة بغية القضاء على الإرهاب.  بعد ذلك توالت آراء مثل مفهوم الشرق الأوسط الجديد ودعم الديموقراطيات وغيرها.  ولكن هل فكر الغرب قبل تطبيق كل تلك المفاهيم بقيام دراسة للمنطقة، وإدراك أن ثمة تناحر وعدم ثقة بين المسلمين؟  فهل قيم الإسلام المستنير المعتدل موجودة في عصرنا الحاضر أم أنها اندثرت مع عصور الانحطاط التي مرت بها المنطقة؟  وإذا كان الأمر هكذا كيف يمكن للغرب دعم الإسلام المعتدل؟   

نرى الشك والفزع يسيطران على المسلمين، فغالبية الفئات والطوائف لا تثق ببعضها البعض، وتخاف من بعضها البعض، حتى في الوطن الواحد.  فنجد حكام الخليج العربي ومواطنيه، باستثناء إمارة قطر، ينتابهم الفزع من وصول الإخوان في مصر وتونس إلى الحكم خوفا على أمنهم القومي وخوفا من ارتباط إخوان الخليج بإخوان مصر وتونس، إضافة إلى قلق دول الخليج من هيمنة إيران التي تسعى إلى بسط نفوذها الشيعي في المنطقة، ومن إمكانية أن تمتلك سلاحا نوويا خلال السنوات الأربع القادمة.  الكثير من غير المنتميين للأحزاب الإسلامية والأقليات في مصر وتونس ينتابهم الفزع ذاته من الإخوان والسلفيين لأنه من المحتمل في ظل سيطرة الإسلاميين على الحكم يصبح قيام دولة مدنية تضمن الحريات للجميع في حكم المستحيل.  الشيعة في المنطقة قلقون من وصول الإسلام السياسي السني للحكم ومدى تأثيره عليهم. إذا كان الإسلام المعتدل فعلا موجودا فلماذا كل هذا الخوف والريبة بين المسلمين؟  وإذا كان الوضع كذلك فأي إسلام  معتدل يدعمه الغرب؟  
أكتب هذه السطور والتطرف والإرهاب يسودان كل مكان في المشرق والمغرب العربي فهناك العملية الإرهابية التي حدثت في الجزائر وأودت بحياة الرهائن الأجانب من اليابان والفلبين ورومانيا وبريطانيا وأمريكا. فبالإضافة إلى انتشار الإرهابيين في شمال مالي والغياب الأمني وتهريب السلاح في ليبيا وعدم الاستقرار نجد أن الحكومات الإسلامية بعد الثورات العربية أقل قدرة على مواجهة تلك التحديات. والمقلق إنها ربما تكون أقل رغبة في التعاون إن لم تكن متعاطفة مع تلك الجماعات.  كما أن الوضع الخطير في سوريا باستمرار القتال والعنف بين النظام وجماعات مسلحة من الممكن أن يجعل منها مرتعا للإرهاب.  هذا عدا عدم الاستقرار الأمني والاضطراب في العراق واليمن ولبنان.  
يرى محمد أركون، المفكر الجزائري والباحث الأكاديمي في الدراسات الإسلامية، أن ما وصل إليه العالم العربي في هذه الحالة من تفشي إرهاب، وتيارات متزمتة، وانتهاك حرمات للمدنيين يرجع في الإساس إلى سيطرة الأفكار الأصولية التكفيرية، وغياب النزعة الإنسانية، والعقل الفلسفي النقدي الذي تجسد في العصر الذهبي في القرن الرابع الهجري، واندثر بعد ذلك في القرن الثالث عشر وبدأت عصور الانحطاط التي ترفض أي تسامح أو تعددية.  ولعل من أهم أسباب هذا التدهور هو هيمنة العقل اللاهوتي الفقهي على الإسلام من خلال فتاوى المشائخ الذين يسيطرون على الجماهير، وقد ساعدت الفضائيات العربية على نشر أفكارهم التكفيرية السلفية والفكر الإخواني المتمثل في أفكار سيد قطب.  وقد ذكر ثروت الخرباوي، قيادي بارز سابق في جماعة الإخوان المسلمين في مصر، في كتابه "سر المعبد" أن أفكار سيد قطب هي دستور فكري للإخوان كما أن تنظيم سيد قطب سيطر على الجماعة.   
أما العقل الفلسفي النقدي فقد غاب في المشرق والمغرب العربي بعد سقوط الفلسفة ولم نعد نجد أمثال ابن رشد، ابن سينا، الفارابي، أبو حيان التوحيدي، أبو الحسن العامري، ومسكويه وقد منعت كتبهم من التدريس في المدارس والجامعات العربية. فهؤلاء هم المثال الساطع المستنير الذي ازدهر في القرن الرابع الهجري.  كتب التوحيدي عبارة: "إن الإنسان أشكل عليه الإنسان" بمعنى أن المفهوم الفقهي الديني لا يكفي لفهم الإنسان، إنما ينبغي أن نضيف إليه المنظور الفلسفي التساؤلي النقدي، ولكن كل هذا الفكر قد أجهض بعد سقوط البويهيين ووصول السلاجقة الأتراك الذين اعتدموا الغزالي منظرا إيديولوجيا ضد العقل والفلسفة.  
وفي العصر الحاضر أجهض التيار العقلاني مرة أخرى.  فالفكر التجديدي للإمام محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وعلي عبدالرازق، وغيرهم هزم أمام أمام فكر حسن البنا وجماعة الإخوان المسلمين والسلفيين.  وصارت بعد ذلك كتب الغزالي، وسيد قطب، وتقي الدين بن تيمية، وابن كثير هي التي تدرس في المدارس والجامعات، أما الفكر التجديدي فإنه يوصف باعتباره "غزواً فكرياً". هذا التعبير، في الأصل، خاطئ، فلو لم ينفتح عباس محمود العقاد، ومصطفى لطفي المنفلوطي، وطه حسين، ونجيب محفوظ وغيرهم على الغرب لما استطاعوا إبداع كل ما أبدعوه.  فالفكر لا يغزو وإنما يرحل من بلد إلى بلد من دون جوازات سفر. ولو لم يؤثر فكرنا في أوروبا في القرون الوسطى لما حصلت النهضة الأوروبية. أما الآن فإننا نجد الفكر السائد هو الفكر الظلامي التكفيري، بينما لا نجد الفكر التنويري العقلاني إلا بين الأقلية من المثقفين والليبراليين المتهمين في أغلب الأحيان بالفسق والفجور والكفر والإلحاد.   
ما حصل من جهة الإسلام السني حصل أيضاً من جهة الإسلام الشيعي بعد أن استولى الصفويون على إيران ورسخوا فيها الأرثودوكسية الشيعية، ومن ثم سيطرة أفكارالخمينيين الأصوليين وتكفيرهم العدو بمصطلحات مثل "الشيطان الأكبر" إلى أن يتحول الند إلى وحش لا إنساني.  فهذه الأفكار الأصولية الشيعية سادت بين الشيعة ولم يعد لمبادئ الحوزة النجفية المعتدلة ذلك التأثير نظرا لظروف العراق الصعبة، لذلك غابت الأفكار التنويرية الموجودة في مؤلفات محمد باقر الصدر وأبو القاسم الخوئي وغيرهم.         
لقد ذكر الخرباوي في كتابه "سر المعبد": "أوجعتني الروح العدائية التي لمحتها في نفوس الجماعة.  كانوا ينظرون للمجتمع نظرة ناقمة ساخطة.  أوجعتني الطريقة العدائية التي يتعاملون بها مع خصومهم الفكريين وتلك القسوة التي يتعاملون بها مع من خرج من التنظيم".  ومن أخطر ماذكر في كتابه أن الإخوان يعتقدون أن الحكم لا يكتب له النجاح إلا باجتماع الفكرة، والقوة المتمثلة في الجيش.  وقد أكد أن الإخوان لديهم تنظيم داخل الجيش وهذا بدأ قبل الثورة وأن هناك بيعة تتم لتكوين الجيش الإسلامي.  لذا فإن واحداً من أهدافهم هو السيطرة على الجيش، وهم  لن يستخدموا القوة إلا إذا ضمنوا السيطرة الكاملة على الجيش المصري.  إن تغلغل أديولوجيات عدائية وتكفيرية في داخل الجيش مسألة في منتهى الخطورة قد تؤدي إلى نتائج لا يحمد عقباها.  كما وضح في كتابه كيف أنّ الإخوان يسيرون على مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، لذلك فإن في اعتقادهم أن ممارسة التزوير في الانتخابات والكذب في سبيل الحق أمر مشروع.  فهم يبررون علاقتهم بأمريكا أنه يجوز الاستعانة بكافر في سبيل الحق، ويستشهدون بما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في هجرته إلى المدينة حين استعان بكافر ليدله على الأثر. وهم الآن يستعينون بأمريكا للسيطرة إلى الحكم.     
يرى محمد أركون أنه إذا أرادت الولايات المتحدة الأمريكية أن تتجنب أحداث اا سبتمبر فعليها تطبيق مفهوم "ديبلوماسية الوقاية الاحتياطية"، وذلك عن طريق مكافحة التيارات الأصولية المهيمنة على الشارع العربي، من خلال تدريس العلوم الإنسانية في جامعات الدول العربية، كما ينبغي تطبيق مناهج العلوم الإنسانية الحديثة على الدين الإسلامي، لأنه لم يستفد من مناهج الحداثة على عكس المسيحية في الغرب.  كما ينبغي على الدول الغربية أن تتفاوض مع جميع الدول العربية بإدخال مادة تاريخ الأديان المقارن في جامعاتها، وتدريس الفلسفة في جميع المدارس والجامعات.  فمن المؤسف أن كتب الفلسفة تدرس في القرن الرابع الهجري وتمنع في القرن الواحد والعشرين في الدول العربية.  
كما أكد أركون أن من أسباب أحداث اا سبتمبر هو أن الولايات المتحدة سكتت على الممارسات الأصولية السلفية المتزمتة، لأنها كانت ترى في ذلك الوقت أنها تصب في مصلحتها لمواجهة الاتحاد السوفييتي، والمد الإيراني، ولم تنتبه إلى خطورة الأمر إلا بعد ضربة اا سبتمبر والآن تعيد الخطأ نفسه بالدعم الواضح للإخوان المسلمين أيضا لتحقيق مصالحها، أو ربما لاعتقادها أنهم معتدلون.  على الرغم أن أسامة بن لادن تلقن تعليمه من كتب سيد قطب وابن تيمية، وهي نفس مراجع الإخوان. وأيمن الظواهري، رئيس تنظيم القاعدة خلفاً لأسامة بن لادن، كان منتميا لجماعة الإخوان. فكون جماعة الإخوان أصبحت جماعة منتخبة لا يعفي من البحث والتنقيب عن أفكار تلك الجماعة، لاسيما أن الوضع أصبح أخطر من قبل، لأن الجماعات الأصولية التي كانت تعمل في الخفاء نجدها تمتلك زمام السلطة في البلاد، وبالتالي يكون نشر الأيديلوجيات التكفيرية الظلامية أقوى وأسرع بين الشعوب.         
إن تجنب تكرار أحداث اا سبتمبر لا يكون باحتضان الإسلاميين، أو الهدنة معهم، بل بمحاربة الأفكار التكفيرية، لأن الحرب على الإرهاب حرب أيديولوجية. وليس وصول الأحزاب الإسلامية عن طريق صناديق الاقتراع، والوعود التي يقدمونها، كافيا لضمان حسن نواياها في منع التطرف.  الضمان الحقيقي هو إثبات ذلك، من خلال دعم الإسلام المعتدل، والتيار التنويري العقلاني، بتجديد مناهج التعليم في المدارس والجامعات، وقلبها رأسا على عقب بإدخال مناهج العلوم الإنسانية، والدين المقارن والفلسفة واستبدال كتب سيد قطب، وابن تيمية، والغزالي، وغيرهم من التكفيريين الذين يرفضون التعددية، بكتب الإمام محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وعلي عبدالرازق، وابن رشد، والتوحيدي وغيرهم من المنتمين إلى التيار العقلاني الفلسفي.  كما يجب منع هؤلاء المشائخ التكفيريين من الظهور في الفضائيات، ونشر أفكارهم الشاذة للجماهير.  وإذا لم يدرك المجتمع الدولي أن القضاء على الإرهاب لا يكون فقط من خلال قتل بعض القيادات الإرهابية، أو مجرد إجراء انتخابات في الدول العربية، بل بمحاربة تلك الإيديولوجيات التكفيرية فالعاقبة ستكون وخيمة، وما يسمى بالإسلام المعتدل لن يكون له وجود إطلاقا.    

التعليقات