مصر الكبرى

08:24 صباحًا EET

مصر: لا مرجعية غير الأزهر

هل كانت «وثيقة الأزهر الشريف لنبذ العنف» ضرورية؟ كانت وجوه الحاضرين المتداعين تعبّر عن قتامة اللحظة التي يمر بها الشارع، عن خطورة ما يحصل من انزلاق إلى افتعال المواجهات.

لكن، هل كانت الوثيقة كافية لتبرير الاحتقان ومعالجة الأزمة؟ قطعاً لا، فالطريق التي أوجبت العودة إلى الأزهر أكثر وعورة من أن تفرش بالكلام الطيّب عن «حرمة الدماء» و«حماية النسيج الوطني» أو «حماية كيان الدولة»، المؤلم أن ثمة شيئاً عميقاً جرح وجدان مصر. ما كان لأي حاكم يأتي بعد «الثورة» أن ينسى روح الأمل والفرح التي أشاعتها في نفوس المصريين، حين بدا أن البلد دخل ميدان التحرير فتطهّر وخرج متطلعاً إلى الغد.
احتاجت مصر إلى البقاء في مشاعر التصالح مع الذات تلك، لأنها كانت منحت نفسها للتوّ فرحة تاريخية نادرة، وسكنت في حلم مستقبلي تحسد عليه. وها هي، بعد عامين، تحاول استعادة روحها تلك، لكن بلا جدوى، فالفرص لا تتكرر. ليس بالطريقة نفسها. الثورة قامت على الحكم السابق لأسباب كثيرة ليس بينها أنه لم يكن «إسلامياً» والثورة تريد أن تطيح الحكم الحالي لأسباب كثيرة قد يكون أبرزها أنه «إسلامي». لكن، في هذه الحال، لماذا اللجوء إلى الأزهر، ببساطة لأنه مسلم، وليس إسلامياً، ولأن إسلامه جامع ومعتدل وعقلاني وغير مستفز، ولا مشكلة لديه في وطنيته ولا في مصريته وعروبته وعالميته. كانت رمزيته ساطعة في لمّة الشمل نبذاً للعنف، في مقابل الرمزية الأخرى بعجزها الفادح عن إحياء الحوار تحت قبة الدولة.
إلى هذا الحدّ تدمرت الثقة، انعدمت، فلا أحد يعرض عن الحوار إلا إذا غدا يائساً من صدقية الآخر، ولا أحد ييأس إلا لأنه جرّب الآخر، بوعوده وتعهداته، بألاعيبه وانقلاباته.
وأبسط مبادئ الحوار أن تكون مرجعية المتحاورين واحدة، الدولة والدستور والقانون، وعندئذ يكون التوافق ممكناً مهما بلغت الخلافات. أما أن تكون المرجعية ما يراه «المرشد» أو نائبه أو «مكتب الإرشاد»، فهذا يلزم البعض ولا يلزم الجميع، وهو في المبدأ يجب ألا يُلزم أحداً، فالدولة شيء، و«الجماعة» شيء آخر.
تشابكت الأحداث وتصاعد العنف، فهل تختزل الأزمة بـ«العنف» هذا مجرد وجه من وجوه الأزمة، ويخطئ كل من يحاول أن يستغله ضد الآخر. هناك من بدأه، وكان هو الظالم. ولا يمكِّن الشعوب صنع مستقبلها واستقرارها بالترهيب المتبادل بين فئاتها، وإذ دعت وثيقة الأزهر إلى التفريق بين العمل السياسي والعمل التخريبي، فقد وضعت الإصبع على الجرح، لأن هذا العمل وذاك باتا «متلازمين»، كل واحد يغذي الآخر.
والأصل في السياسة أن تجتهد لئلا تؤدي أخطاؤها إلى الحضّ على العنف. لكن عدم الاعتراف بالأخطاء في مسلسل: الإعلان الدستوري – ضرب القضاء – نص الدستور – الاستفتاء – قانون الانتخاب … من دون نسيان أخطاء مرحلة المجلس العسكري، وما تخللها من عنف تحوم حوله شبهات كثيرة.
كل ذلك ساهم في اعتمال الحال الراهنة على ما فيها من مخاطر تهدد بـ «انهيار الدولة» وفقاً لتحذير المؤسسة العسكرية غير الراغبة في العودة إلى الحكم – كما قد يتكهن كثيرون، رغم أن الأحداث الأخيرة فرضت منطق المقارنة والمفاضلة بين النظامين السابق والحالي في طيات المحاورات التلفزيونية.
قيل ويقال إن هذا حكم لا يزال في طور تعلّم الحكم. ومن يريد أن يتعلم يتوقع منه، على الأقل، أن يتواضع، فصندوق الاقتراع لا يزرع الخبرة في العقول، ويلزم اكتسابها بالممارسة.
الأصح أنه حكم يريد تمرير أجندته بالالتفاف والمغالبة، لذا استفز العنف المضاد رداً على العنف الموالي: ميليشيات «الإخوان» مقابل الـ «بلاك بلوك». والسؤال الآن هو: هل يُستغلّ الحزم لإخماد العنف كوسيلة لتثبيت الحكم مع أجندة «الأخونة»، أم للعودة إلى اعتبار المرحلة انتقالية، كما هي حقيقة، وبالتالي فهي توجب التنازل والانفتاح تغليباً للوفاق الوطني؟
في مختلف بيئات «الإسلام السياسي» يختلط حالياً الخوف على التجربة المصرية بالاستياء من تسرّعها وأخطائها، لأنها ماضية في كشف هذا التيار باعتباره مجرد أحزاب، فالمجتمعات المسلمة لم تعد ترى فيه «إسلامها»، ثم أنها صدمت بكونه يفتقد مقدمات «السياسي». وهذا الانكشاف من إيجابيات التجربة رغم مخاطرها.

التعليقات