مصر الكبرى

01:31 مساءً EET

الثورة والصحافة في مصر

يعترف الجميع في مصر المحروسة أن البلاد والعباد معا لم يكونا من ذوي الاهتمام بالصحافة الورقية تحديدا قبيل الثورة بسنتين أو على أقل التقدير بسنة واحدة، لكن منذ إعلان الصحف المصرية عبر عناوينها الرئيسة بأن الشعب أسقط النظام أصبح المصريون في حالة افتتان بل وهوس مستدام بتتبع الصحف باختلاف انتماءاتها وألوانها الحزبية والمستقلة والقومية. وصارت عملية التقاط الصحيفة صباح كل يوم من أهم العادات الطقوسية لديهم ولكن اختلف الدوافع وتباينت التوجهات نحو هذا الفعل الملحوظ.وربما تجدر الإشارة قبيل الولوج في تحليل دوافع المصريين نحو قراءة واقتناء الصحف بصورة يومية، التنويه إلى حقيقة مفادها أن الثورة المصرية وما تلتها من إشكاليات سياسية تمثلت في صور ممارسات رسمية وأخرى شعبية قد أسهمت بشكل مقصود في زيادة رغبة المصريين في معرفة أخبار الوطن عن طريق الصحف الورقية، ظناً منهم أن المعلومات الواردة بصحافة الورق وإن كان يتحكم فيها إبداع الصحفي أو توجه المؤسسة الصحفية نفسها، إلا أنها تتمتع بمصداقية لديهم تبعا لظروف التنشئة السياسية والاجتماعية التي تربوا عليها وهي إعلامهم عن طريق ورقة مكتوبة وليس بصورة إلكترونية أو لفظية.والذين كانوا يرون في الصحافة قبل الثورة بوقا ومنصة للنظام الحاكم فهرعوا إلى وسائط معلوماتية أخرى فهم الآن أصبحوا أكثر هرولة إلى تتبع ومعرفة أحوال البلاد وتطورات الأحداث اليومية عن طريق الصحيفة، وكثير من المصريين رغم أنهم يطالعون الأخبار عن طريق مواقع الصحف الإلكترونية، إلا أن هذا مجرد مرحلة أولية مكرورة تسبق عادة شرائهم للجريدة في صباح اليوم التالي وكأنهم يريدون تأكيد خبر مقروء أو نفي وتكذيب آخر، المهم أن هذه العملية ـ أقصد قراءة النسخة المطبوعة والاحتفاظ بها ـ صارت لدى ملايين المصريين مستنداً رسمياً قد يلجؤون إليه عند الضرورة أو عند تأييد أو رفض فكرة ما.علاوة على أن المصريين اعتادوا استشراف مستقبلهم من خلال متابعة ما قد تنشره الصحف من تصريحات للوزراء والمسؤولين، بالإضافة إلى ما تتمتع به الصحف من قدرة على إماطة اللثام عن المشكلات الاجتماعية والسياسية التي ربما تظهر في المستقبل والتي ربما تظل قائمة دون حلول.ثمة ملامح أخرى تحدد العلاقة بين أثر الثورة على الصحافة في مصر ودوافع اهتمام المصريين بقراءة الصحف، وهي تلك العوامل التي ترتبط بدوافع المصريين في توثيق الحدث، فمعظم المصريين الآن يرتادون شبكات التواصل الاجتماعي مثل فيس بوك وتويتر وغيرهما، وهم في هذا التواصل يفجرون طاقاتهم المكبوتة وينزعون فتيل الصمت وعدم المشاركة الحقيقية في المشهد السياسي عن طريق تعليقاتهم أو تغريداتهم الإلكترونية، لكنهم في حقيقة الأمر لا يعتدوا بالأخبار أو المعلومات المنشورة على الوسائط الإلكترونية تبعاً للثقافة التقليدية التي تربوا عليها. لذلك فهم في حالة نكوص وارتداد إلى ثقافتهم التقليدية تتجسد في اعتبار الجريدة الورقية وثيقة رسمية يمكن الاعتماد عليها، ولا مناص في اعتبارها سجلاً تاريخياً يوثق الحدث الذي يتغير بصورة محمومة متسارعة.والسؤال الذي يعلو المقال وهو هل أثرت الثورة المصرية على الصحافة؟ تأتي الإجابة بالإيجاب حيث إن الثورة بعد انقضاء وانتهاء حشدها بصورة مؤقتة وحتى الإعلان الدستوري الذي جرى في مارس عام 2011 انتقلت الثورة بكافة آلياتها ومعداتها ومطالبها الثورية إلى صفحات الجرائد والصحف اليومية والأسبوعية، وتحولت الصحف بفضل الثورة إلى ساحة للثوار تفي بإيصال أصواتهم ومطالبهم إلى كل المصريين في الداخل والخارج.والمستقرئ باهتمام لوقائع الثورة المستمرة منذ عامين وحتى الآن يكتشف على الفور ما أصابت به الثورة لغة الصحافة، فعلى العكس تماماً بدلاً من أن تتنتقل اللغة الصحفية إلى الثوار بالميادين صارت لغة هؤلاء الثوار والنشطاء السياسيين هي قاموس ومعجم الصحافة السياسية، ليس هذا فحسب بل إن بعض الشعارات السياسية الثورية التي كانت تطلق بالميادين احتجاجاً أو اعتراضاً أو مطالبة بتحقيق مطلب ثوري انتقلت من مجالها السياسي إلى مجالات أخرى اجتماعية ودينية ورياضية وفنية.فرأينا مثلاً شعارات ميدانية سياسية مثل الشعب يريد إسقاط النظام أو ارحل، أو يسقط الفلول، أو يسقط حكم العسكر وغيرها من الشعارات المرتبطة بالمشهد السياسي تحولت إلى الفنانين يريدون إسقاط النقيب، أو الرياضيين يريدون عودة النشاط الكروي، أو يسقط حكم المخرج وهكذا تصدرت مثل هذه الشعارات عناوين الصحف والمجلات الفنية والرياضية والاجتماعية. وربما نبالغ القول حينما ندعي بأن الصحافة بعض الوقت كانت تلجأ إلى الغموض في سرد الخبر أو الاحتراس الشديد في صدم القارئ أو الرأي العام في تناول موضوع سياسي أو ديني، لكن لغة الثورة المباشرة التي استطاعت بحق أن تكسر كافة تابوهات الواقع نجحت في نقل تلك المزية إلى لغة الصحافة والصحفيين أنفسهم، وبات الصحفي الناجح هذه الأحايين هو الذي يستطيع الكتابة بلغة مباشرة لا تعتمد على الغموض أو سرد وقائع المشهد السياسي على استحياء.وبالفعل نجحت الثورة المصرية التي لا تزال مستمرة دونما توقف أن تكسب الصحافة مزية أخرى وهي السرعة في التقاط الحدث ونقله بنفس الدرجة من السرعة، لاسيما وأن أحداث الشارع السياسي تسير في خطوط غير مستقيمة وغير متوقعة وبصورة غير وئيدة بخلاف الواقع الصحفي قبيل الثورة الذي كان يتسم بالطابع الكلاسيكي الذي يمكن توصيفه بالبطيء نسبياً، أما اليوم فالصحافة صارت أكثر سرعة في نقل المشهد السياسي تحديداً بل ونستطيع الفصل بالقول إن من أبرز مكتسبات الصحافة من ثورة يناير هو مساحة الحرية التي نكاد وصفها وتصيفها بالمطلقة لاسيما في استضافة بعض الشخصيات التي كانت محظورة الرأي في عهد مبارك على صفحات الصحف القومية بخاصة، وكذلك تجاوز الصحف القومية مرحلة الحياء الروتيني في انتقاد أداء الحكومات الأمر الذي ظلت بعض الصحف الرسمية الناطقة باسم المؤسسة الحكومية في مصر طيلة عقود مضت لا يمكنها الجرأة في توجيه النقد واللوم لبعض سياسات وإجراءات الحكومة وعمل الوزراء.وإذا كنا مضطرين للقول إن الصحافة هي مهنة الالتزام سواء في نقل الخبر أو تقديم وعرض وجهات النظر والميل إلى المحايدة بأقرب وأبسط الصورة، فإن دوافع المصريين في الهرولة نحو التقاط الصحف دون الاعتماد المطلق على تعرف الحدث من الوسائط الإعلامية المرئية أو عن طريق شبكات التواصل الاجتماعي قد تغيرت بالإيجاب وكان للثورة الفضل في ذلك، فالثورة المصرية التي اعتمدت على المباشرة دون التضليل وعلى ممارسة الحراك السياسي بغير وسيط أو قيادة أو مرجعية تتحكم في مسيرتها لاسيما في أيامها الثمانية عشر الأولى منها، هي التي منحت للصحافة ـ إن جاز التعبير ـ الصدق في التناول سواء من حيث اللفظ أو الصورة المصاحبة للمقال أو الحدث أو واقع المشهد السياسي.وبنظرة سريعة على تأثير الثورة على الصحافة الورقية والشبكات الإلكترونية التي تخلق عالماً افتراضياً يتضح لنا الفرق بينهما، فالأولى بحق استطاعت أن تتملك عقل القارئ بوصفها الوسيط الإعلامي الذي يميل إلى التحليل والسرد والتأويل بعيداً عن ثقافة القفزات الأرنبية نسبة إلى الأرنب في سرعته مما تتيح الفرصة للقارئ إلى فهم الموضوع المتناول ومن ثم تكوين رأي أو قرار بشأنه. بخلاف أثر الثورة على الصحافة الإلكترونية أو بأكثر تحديد شبكات التواصل الاجتماعي ومواقع نقل الأخبار، فإن اتسمت بالقفزات في عرض الخبر تارة، وتارة أخرى في تناوله عادة بصورة كاريكاتورية ساخرة تبعث في صدر المشاهد أو المشارك الإلكتروني دافعية السخرية وأحيانا العبث في التعليق على الأخبار.إذن كانت الصحافة الورقية على موعد لاستعادة بريقها المفقود بفضل استلاب واستقطاب الإعلام الإلكتروني لعقل وبصر القارئ الذي هرب من عالم واقعي محسوس لا يرى فيه أية مشاركة إلى عالم افتراضي خائلي تحقق له من خلاله فرصة المشاركة حتى ولو كانت مجرد تعليق أو تغريدة أو إبداء إعجاب صامت. إلا أن ثمة عقبات تظل في طريق الصحافة الورقية، منها ضيق مساحة العرض بالصحيفة ومنها الفارق الواضح بين تكنولوجيا عرض الصور بالصحف مقارنة بالمواقع الإلكترونية.المدهش حقا في معرفة العلاقة بين الثورة والصحافة، أن الأولى نجحت في إعادة مكان المقال السياسي إلى مكانته الحقيقية لدى جمهور الشباب والمراهقين أيضا، فجملة الشباب والمراهقين كانوا من هواة قراءة الأخبار الاجتماعية والموضوعات الرياضية السريعة ونادرا ما كانوا يلجؤون إلى قراءة تقرير سياسي مطول أو مقال تهتم بتحليل الشأن السياسي، لكن بفضل الثورة المصرية ولاسيما وأن عناصرها هم الشباب أنفسهم، لذا فلقد وجدنا إقبالا كبيرا من قبل الشباب على متابعة المقالات السياسية من خلال استطلاعات الرأي حول متابعة الموضوعات التي يقبل على قراءتها الشباب.ووجد الشباب في المقالات السياسية فرصة جيدة في تأويل المشاهد التليفزيونية اليومية والمتعلقة بالحراك السياسي، من خلال تحليل الكاتب لهذه المشاهد واستخلاص النتائج منها وهو الأمر الذي ساعد القارئ في تكوين خبرة سياسية تمكنه من فهم الأحداث السياسية.

التعليقات