مصر الكبرى

03:04 مساءً EET

القوة المركزية في المجتمع

العالم العربي يشهد تحولات مصيرية في مراكز القوة التي تقود المجتمع، ولكن ما هي القوة المركزية التي هي بمثابة الدماغ من الجسم؟

أذكر من علم التشريح حين كنت في الصف الأول من كلية الطب والأستاذ يتكلم بصوت خفيض في المقارنة بين الجسم البيولوجي والاجتماعي وهو يعرف الدماغ: إنه بمثابة الحكومة العاقلة المخلصة. والجسم بمثابة الشعب المتفاني في الطاعة.
يعتبر عالم النفس السلوكي «سكينر» أن كل شيء خفي مطوق بالأسرار يحتفظ بلون من القدسية، وتتبخر كل الهالة من حوله حين معرفة سره ونقله إلى القانون العلمي: «إننا نعترف بهذه العلاقة الغريبة بين التقدير وعدم وضوح الظروف المسيطرة. ويختلف مدى التقدير باختلاف ضخامة الظروف المضادة. فيتناسب ثناؤنا على الكرم مع أهمية التضحيات. ويستمر عازف الناي في العزف على رغم وجود ذبابة تحوم حول أرنبة أنفه، ونحاول ألا نعطس في المناسبات الوقورة، ونأكل الطعام على مهل في حين نشتهي أن نلتهمه كالوحوش الكاسرة، ونمد أيدينا بتؤدة ودون لهفة إلى المال الذي نشتهيه، ونفضل أن نتعرض للحرق ونضع الصحن الحار في بطء بدل أن نتخلص منه بسرعة لا تليق بهيبتنا. إننا نحاول أن نكسب تقديراً عن طريق إخفاء التحكم أو تغيير مظهره. أما العلم فيسعى بطبيعته لإيجاد تفسير للسلوك أكثر كمالًا فهدفه تدمير الخفايا والأسرار».
يعتبر كتاب «مالكو القوة» The Powerholders لمؤلفه عالم النفس الاجتماعي «ديفيد كيبنس» David Kipnis الذي صدر في منتصف السبعينيات من أكثر الكتب المدرسية التي تحلل وتصف على نحو تأسيسي «مظاهر التحول في القوة»، وكما يرى برتراند راسل أيضاً في كتابه «القوة» The Power أنه إذا كانت القوة النووية هي الأساس في علم الفيزياء فإن السلطة هي الطاقة الأساسية في المجتمع، وكما كانت للطاقة في الطبيعة مظاهر تحول، كذلك السلطة في المجتمع، وهو يعدد من مظاهر السلطان هذه ستة (الكهنوت والملوك والعاري والثوري والاقتصادي والسلطان على الرأي أي آلة «الانفوميديا» بامتزاج الإعلام مع المعلومات) تماماً كما في تحول الكهرباء إلى طاقة حركية أو حرارية أو حتى انفجارية تدميرية.
يقول راسل إن: «السلطة هي المفهوم الجوهري في العلوم الاجتماعية تماماً كما أن الطاقة هي المفهوم الجوهري في علم الطبيعة. وللسلطان كما للطاقة مظاهر شتى. منها الثراء ومنها التسلح، ومنها السلطات المدنية، والتأثير على الرأي العام، وليس ثمة شكل واحد تشتق منه بقية الأشكال الأخرى. فالسلطان كالطاقة يمكن أن يعتبر متنقلًا من أي شكل من أشكاله إلى شكل آخر. وعلى علم الاجتماع أن يتحرى وضع القوانين التي تنظم مثل هذا التحول أو التنقل».
وعندما يعلل راسل هذا العطش إلى القوة يرجعه إلى طبيعة خاصة في الإنسان تفرقه عن الحيوان؛ فثعبان «البوا» ينام بمجرد أن يزدرد فريسته فلا يتحرك إلا بشهية جديدة إلى الطعام، ولم تكن تنقص «كزركسيس» العاهل الفارسي القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث عندما قام بحملته المدمرة على أرض اليونان. كما أن سجلات عبدالناصر لم تظهر امتلاكه المليارات في البنوك السويسرية، ولكنه كما وصفه لنا أحد الكتاب كان يريد: «أن يجلس على مكتب فيه زران كهربائيان إذا ضغط على أحدهما قام الشعب كله، وإذا ضغط على الآخر جلس الشعب كله دون أن يخرج على هذا الإجماع أحد. وأنه لذلك يريد أن يطهر البلد من كل العصاة»!

التعليقات