مصر الكبرى

10:17 صباحًا EET

عودة الهوية التاريخية

هل تنشأ الهوية من اللغة؟ العروبة من اللغة العربية. فليست العروبة بأب أو أم وإنما العروبة هي اللسان فكل من تحدث العربية فهو عربي. فهناك هوية عربية هي أساس القومية العربية والثقافة العربية. لا تقوم القومية العربية على العرق بل على اللغة والثقافة والجوار الجغرافي والتاريخ المشترك، وقد كان معظم النحاة العرب مثل سيبويه وأبي علي الفارسي من الفرس. وقد حرصت القوى الاستعمارية الكبرى على نشر لغاتها في البلاد المستعمرة فخلقت الفرانكفونية والأنجلوفونية والهسبافونية. وكان أول شيء حرصت عليه هو القضاء على اللغات الوطنية، كما حدث في الجزائر مع اللغة العربية عندما حاولت فرنسا محوها لصالح الفرنسية، لولا جهد التعريب بمساعدة من مصر وسوريا حتى عادت الجزائر للغتها العربية. وما زالت بعض البلاد الأفريقية فرانكفونية مثل غينيا أو أنجلوفونية مثل غانا. فاللغات الوطنية لغات محلية لا يمكن أن تخرج على الصعيد الإقليمي أو الدولي. وأنشئت مجموعة الفرانكفونية للحفاظ على انتشار اللغة الفرنسية خارج حدودها خاصة في أفريقيا. وقد قامت إسبانيا بنفس الشيء في جنوب غرب آسيا في الفلبين بجعل الإسبانية لغتها الوطنية. وقامت هولندا بنفس الشيء عندما حاولت جعل لغة إندونيسيا الهولندية لولا حركات التحرر الوطني والمحافظة على اللغة الوطنية، "بهاسا"، كعلامة على النضال الوطني. وما زالت اللغة الإنجليزية هي لغة الخطاب الوطني في المستعمرات البريطانية القديمة مثل الهند وجنوب أفريقيا ونيجيريا. وضاعت فرصة خلق لغة أفريقية واحدة مثل "السواحيلي" التي يتكلمها شرق القارة أو العربية التي تمت محاربتها في جنوب السودان وفي دول جنوب الصحراء التي شمالها مسلم وجنوبها مسيحي. صحيح أن الأجناس الأوروبية، الفرنسية والبريطانية والألمانية والإسبانية واليونانية، أجناس في علم السلالات ولكنها كذلك لغات وثقافة، حضارة وتاريخ. وقد حرصت الدول الأوروبية على إنشاء جامعات أوروبية أو فروع لجامعاتها بلغاتها في الخارج حتى تنشر لغاتها وثقافاتها. وأصبحت الإنجليزية في دول عربية عدة أشبه باللغة الرسمية في دور العلم والفنادق والبنوك والمؤسسات التجارية.

هل تنشأ الهوية من الثقافة؟ هناك الهوية الإسلامية من الثقافة الإسلامية. وهو ما يربط المسلمين جميعاً على اختلاف لغاتهم وأعراقهم وأوطانهم. وتشمل العلوم الإسلامية النقلية والعقلية، الكلام والفلسفة والتصوف والأصول، والعلوم النقلية: القرآن الكريم والحديث والتفسير والسيرة والفقه، والعلوم العقلية الرياضية: الحساب والفلك والجبر والهندسة والموسيقى. أو الطبيعية: الطب والصيدلة والمعادن والنبات والحيوان. وهي العلوم التي ما زالت تربط جميع أرجاء العالم الإسلامي. وإذا كانت الدولة الإسلامية الواسعة مثل الإمبراطورية العثمانية قد انتهت فإن الثقافة الإسلامية ما زالت باقية. لها مخطوطاتها وجامعاتها ومعاهدها ومدارسها. وما زال طلبة العلم ينتقلون بين المعاهد الإسلامية الكبرى في الأزهر والقيروان والزيتونة. وما زالت الآثار الإسلامية يتوحد بها الجميع. وفي مقدمتها قصر الحمراء في غرناطة ومسجد قرطبة، وخيرالدا إشبيلية، والمسجد الأموي، والجامع الأزهر، وغيرها من المساجد الكبرى حديثاً. وتشمل الثقافة العلوم والفنون والآداب. فما يربط المسلمين هو الإسلام باعتباره لغة عربية، لغة القرآن الكريم وثقافة إسلامية.
والهوية أيضاً مرحلة تاريخية تصف الشعوب بأنها متقدمة أو متخلفة أو في طريق النمو. إذا كانت الهوية ثابتة وأصيلة في الوجود فإن مرحلة النمو متغيرة، من التخلف إلى التقدم مثل الدول الأوروبية. وكما حدث للحضارة الإسلامية في مرحلتها الأولى، منذ النشأة حتى ابن خلدون على مدى سبعة قرون أو من التقدم إلى التخلف، كما حدث في المرحلة الثانية في القرون السبعة التالية بعد ابن خلدون، عصر الشروح والملخصات الذي كاد ينتهي بفجر النهضة العربية الحديثة، حين بدأ منذ قرنين من الزمن. فالهوية تأتي من المرحلة التاريخية وليس من الانتساب الفكري أو الولاء الأيديولوجي. وقد كان العالم الإسلامي يصنف في الدول المتخلفة والآن يصنف ضمن الدول السائرة في طريق النمو أو النامية، وبعضها مثل الدول المتقدمة مثل ماليزيا. فالهوية ليست ثابتة بل هي متغيرة على الأمد الطويل، هوية تاريخية مثل غيرها من الهويات، هوية مفتوحة وليست منغلقة، تقوم على التحدي والمنافسة وليس على التعصب والكراهية. وفي الستينيات كانت للعالم الثالث هوية واحدة: عدم الانحياز، الحياد الإيجابي. وهي هوية الآن تعارض العولمة وأشكال الهيمنة الجديدة وتبحث عن تعاون إقليمي مثل دول جنوب شرق آسيا، ودول أميركا اللاتينية. وعندما أتى الإسلام صنع تاريخاً جديداً للعرب ولشبه الجزيرة العربية بل وللعالم القديم كله وجعل العرب يرثون إمبراطوريتي الفرس والروم في أقل من قرن حرباً شرقاً وغرباً، وسلماً جنوباً في أفريقيا وشمالًا في أوروبا في العصر الحديث.
الهوية إنسانية تتجاوز الحدود الجغرافية والعرقية واللغوية والثقافية. توجد قيم إنسانية عامة مثل الحرية والعدالة اتفقت عليها الإنسانية على مدار التاريخ. مضمونها من داخلها، من الفطرة والطبيعة، بلا حدود ومع ذلك هي وجودية أرضية يحملها الوجود الإنساني ويحققها في الزمان والمكان. إذ تندرج الهويات في الخصوصية والعموم، ليس بالضرورة في خط رأسي بين الأدنى والأعلى بل يمكن أن يكون في مسار أفقي بين الأمام والخلف. فطالما حاربت الشعوب من أجل الحرية والعدالة منذ ثورة سبارتاكوس وحتى ما بات يسمى "الربيع العربي"، ومنذ المانوية وحتى الماركسية. الفطرة واحدة منذ الخلق الأول. والعقل البديهي مغروز في النفس. وهو الذي خاطبه الوحي بقوله ﴿أفلا تعقلون﴾، ﴿أفلا تفكرون﴾. وهذه الهوية الإنسانية هي التي تسمح بتأسيس المنظمات الدولية لحقوق الإنسان والطفل والمرأة. وقد ظهرت هذه الهوية الإنسانية في كل حضارة، عند كونفوشيوس في الصين، وبوذا في الهند، وسقراط عند اليونان، والمعري عند العرب، وإراسموس وشكسبير وجوته في الغرب. هي الهوية التي تنبع من الذات. من الجوهر وليس من الأعراض الخارجية. هي الهوية التي تصبح فيها الإنسانية هوية واحدة لا تمييز فيها بين أجناس أو لغات أو ثقافات أو أوطان.
هي هوية تنبع من حضارات الشرق القديم بعد أن أدت الحضارة الغربية الحديثة مهمتها في الحداثة بنموذجها في التحديث في القرون السبعة الأخيرة، العودة إلى الآداب القديمة في القرن الرابع عشر للتخلص من اللاهوت الكنسي، والإصلاح الديني في القرن الخامس عشر للتخلص من السلطة الكنسية واحتكار التفسير، وجعل العلاقة بين الإنسان وربه علاقة مباشرة، والنزعة الإنسانية في القرن السادس عشر، وجعل الإنسان مركزاً للكون، والعقلانية في القرن السابع عشر، وإثبات الوجود بالفكر "أنا أفكر إذن أنا موجود". ثم تطبيق العقل في المجتمع وظهور فلسفة التنوير، الحرية والإخاء والمساواة، والمبادئ الثلاثة التي قامت عليها الثورة الفرنسية، ثم العقل في الطبيعة وتأسيس العلم الطبيعي، والثورة العلمية، خاصة العلوم البيولوجية في القرن التاسع عشر ونظرية التطور، ثم أزمة القرن العشرين كما بدت في العدمية وفلسفات العبث ثم في التفكيكية وفلسفات ما بعد الحداثة وإعلان النهاية في الفينومينولوجيا. انتهت حضارة في الغرب وبدأت حضارة في الشرق فيما يسمى "ريح الشرق". وكما بدأت العنقاء تطير من الشرق إلى الغرب في الماضي، من الصين والهند وفارس وبابل وآشور وكنعان ومصر إلى اليونان والرومان والعرب والحضارة الإسلامية حتى الغرب الحديث، فإنها تطير من جديد عائدة من الغرب إلى الشرق مارة بالمنطقة العربية الإسلامية. فالهوية التاريخية تتحرك الآن ونحن في قلبها. وقد يكون الحراك العربي أحد مساراتها.

التعليقات