مصر الكبرى

02:19 مساءً EET

العشوائية الفكرية في مصر!

صار التخبط الفكري والعشوائية الذهنية في مصر صكين سياسيين للولوج إلى المعترك المعاصر، وصارت مصر في لحظتها التاريخية نهباً لخطايا العقل الإسلامي، فلم يعد للمصريين اليوم قضية تتصدر المناقشة يمكن أن تفوق قضية العقل الإسلامي الذي تمثله مختلف التيارات التي تجتاح الساحة السياسية بأسماء غير ذات علاقة بمسمياتها، وليس المصريون هم الذين انشقوا وحدهم على هذا العقل ونقدوه وتصدوا لشطحاته، بل شاركتهم فرق وجماعات وأنظمة وتوجهات أشارت جميعها إلى مدى التباين الحاد بين طبيعة العقل المصري في شوطه التاريخي الطويل وبين نموذج العقل الإسلامي المعاصر الذي استعبدته نزعة الاستعلاء الديني والعنصرية العقائدية.

ومن أبرز هؤلاء كان العالم الباكستاني الشهير عبد القدير خان الذي أفصح عن مكنوناته ودواخله إزاء جبهة السيادة الإسلامية في مصر، مشككاً ليس في أهلية سلطتها فحسب، وإنما في طابعها الفكري وارتباط مسار هذا الطابع في انعكاساته سلباً على الصعيد المستقبلي، بعد أن بدد النظام الدكتاتوري السابق مصر بأسرها ماضياً وحاضراً ومستقبلاً حتى صارت حطاماً قومياً. ذلك في محاضرته الشهيرة التي نقلتها صحيفة «ذي نيوز» الباكستانية معرباً فيها عن مدى خطورة اقتحام الأفكار العشوائية للمحيط المصري إثر بلوغ التيار الإسلامي سدة الحكم بفاعلية الدعم الغربي الذي فشل في غزو مصر عسكرياً فلجأ، إلى أن يتولى ذلك التيار مراكز السلطة والمسؤولية ليكون البديل الأمثل، وأنه إذا كان الصعود الإسلامي أحدث تموجات كبرى في العواصم الغربية وإسرائيل قبلها وكانت الخشية مبعثها آنذاك من محاولات إحياء تراث وثروات مصر مع الاحتفاظ بالعلاقات الخارجية المتوازنة والاتفاقات القائمة على الاحترام المتبادل والسعي نحو المسار الديموقراطي وإقرار الحريات وتجلي العدالة الاجتماعية، فإنهم اليوم مطمئنون أن مصر لا تسير على الدرب لأن عشوائية الفكر لا تحقق الاستقرار بل إنها تعصف بطموحات القاعدة الشعبية وتطيح بمركزية مصر الثقافية ولا تنتج إلا مستقبلاً مريضاً كان هو آخر نتائج نظرية الاحتمالات السياسية بعد ثورة كان لها طابع متفرد بين الثورات، لكن حصدها من لم تكن له فضيلة تحريكها، وكان مهادناً لذلك النظام الذي أتت عليه الثورة واقتلعته.
وإذا كانت العشوائية الفكرية تمثل إحدى الآفات المجتمعية فإنها تمثل الآن بالنسبة إلى مصر كارثة تفوق مستويات الخيال الجامح، لا سيما بعد تلك العقود الخوالي التي مثلت وصمة على الجبين المصري كانت تستدعي محوها وليس تأكيدها، وعلى بعض من ذلك أو كله تطل علينا تساؤلات كانت تستوجب الطرح على الساحة المصرية في أشد لحظات تأزمها مثل: كيف يرتضي العقل المصري بسيادة الطابع الانغلاقي للعقل الإسلامي؟ أين ذلك المشروع النهضوي المزعوم لذلك العقل الإسلامي؟ وهل للعقل الإسلامي المعاصر أدنى علاقة بمعاني التقدم والحضارة؟ بل هل لهذا العقل من علاقة بمفهوم الاعتدالية والوسطية أو النظرة العلمية والرؤية الموضوعية؟ بل أيضاً لهذا العقل من وسائل سوى أفانين الاستحواذ على دوائر السلطة؟ وماذا قدم هذا العقل من روائع الفكر الديني أو نظريات الحوار أو إبداعات الجدل الخلاق؟ وما هو منطق هذا العقل في التماهي مع الآخر الغربي؟ وكيف يمكن تجاوز الفجوات الفكرية بينهما؟ وهل لهذا العقل أن يستوقف ذاته مستهدفاً معرفة ذلك الداء العضال الذي يحول دون الانطلاق وتغيير الواقع نحو الأفضل والأنسب والأمثل؟ أم أن رضى العجز وضعف الحيلة قد صارت هي وسائله ومبرراته الأيديولوجية؟ من ثم كيف يرتبط مستقبل الرسالة الحضارية لمصر بذلك العقل الذي عطل مسيرتها وأجدب خصوبتها؟ وهل تستطيع مصر بكل قواها التاريخية وزخمها الثقافي والمعرفي أن تنفلت من إيسار ذلك العقل مصححة للمسار والوضعية والكينونة مستوحية تلك الروح العبقرية القابعة في أعماق الإنسانية بأسرها؟
إنه إذا كانت أشد الأخطار على الشعوب إنما تأتي من أولئك الذين ينشرون بين الناس عطاياهم وهباتهم كما قال قديماً «بلو تارك»، فإن العقل الثوري المصري لم تخترقه ترهات العقل الإسلامي المتستر بتيجان السلطة والمزهو بلباب الوهم ولن يأسره إلا تاريخه الذي جعله دوماً عصياً على صيحات الخضوع والإذعان.

التعليقات