مصر الكبرى

09:17 صباحًا EET

ما هي أهمية الانتخابات.. في غياب الوطن؟

من أسوأ ما يصيب الأوطان اختلاط الأمور على الحاكم والمحكوم، على حد سواء، لدرجة تنعدم فيها القدرة على تمييز السبب عن المسبَّبِ عنه، فيقرّر الجميع أن تجاهل الحقيقة.. وصولا إلى التكاذب هو خير وسيلة للتعايش.

لبنان مثال صارخ على ذلك. وما الجدل العبثي في مسألة قانون انتخاب جديد إلا وجه من وجوه تجاهل الحقائق إلى حد التكاذب المكشوف.
بادئ ذي بدء، يُشاع أن تأجيل الانتخابات النيابية المقررة في يونيو (حزيران) المقبل ممنوع. ممنوع بتاتا. الجميع ضد تأجيل الانتخابات!
ثم هناك «ممنوع» آخر، مرفوض بالمطلق، هو إجراء الانتخابات وفق ما يُعرف بـ«قانون الستين» – أي الذي اعتمد عام 1960 – وفيه ترتيب اعتباطي للدوائر الانتخابية يستند نظرا إلى القضاء (القائممقامية) كدائرة انتخابية، إلا أنه يضم من الاستثناءات الغريبة ما يغيّب أي تبرير منطقي لتقسيماته.
ولاحقا، ظهر «ممنوع» ثالث بحكم حساب الأصوات داخل مجلس النواب، هو مشروع النسبية. فقبل بضعة أشهر أقرّت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي من حيث المبدأ مشروع قانون يقوم على مبدأ التمثيل النسبي، الذي يفضله رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان. مشروع الرئيسين سليمان وميقاتي الذي وافقت عليه الحكومة من حيث المبدأ وأرسلته إلى مجلس النواب، كان محكوما بالسقوط في تصويت مجلس النواب، لأنه مرفوض من جميع الكتل المتحالفة تكتيكيا في «تجمع 14 آذار»، ومعها أصوات نواب كتلة الزعيم وليد جنبلاط، فمع أن هذه الكتلة ممثلة بالحكومة بثلاثة وزراء.. فإنها ترفض النسبية. وبالتالي، غدا متعذرا تمرير مشروع النسبية المقترح في البرلمان.
ثم أطل ما وُصف زورا بمشروع «اللقاء الأرثوذكسي» الذي يقسّم المقسّم، ويفتّت المفتت، عبر حصر حق انتخاب نواب كل طائفة بناخبي طوائفهم. وهو ما يعني قطع أي صلات مصلحية أو تعايشية بين الطوائف، وفتح الباب أمام المتطرفين في كل طائفة لـ«خطف» الطائفة كلها وفصلها عن باقي مكونات الوطن. وتيسر إقرار هذا المقترح في اللجان الفرعية البرلمانية في وجه معارضة أغلبية ممثلي السنّة والدروز ونسبة عالية من المسيحيين، لأن بعض القيادات المسيحية في «14 آذار» استسلمت تكتيكيا لمزايدات – بل ابتزاز – العونيين، الذين يعتبرون أنفسهم الأكثر مسيحية بين مسيحيي لبنان، مع أنهم الغطاء المسيحي لسياسة «حزب الله».
غير أن هذا المشروع الانتحاري، للمسيحيين في المقام الأول، يبدو أيضا من «الممنوعات». ذلك أنه مرفوض من قبل رئيسي الجمهورية والحكومة، من منطلق أنه يخالف الدستور اللبناني، ولا سيما في بند «المحافظة على العيش المشترك»، ولجهة الخروج عن نص «اتفاق الطائف»، الذي هو جزء من الدستور. وثمة من يقول إن الرئيس برّي أيضا ليس متحمسا لفتح معركة ضد السنّة والدروز ونصف المسيحيين من أجل مشروع سيقضي على البقية الباقية من قاعدته الانتخابية ضمن الطائفة الشيعية.
في هذا السياق، يجب الإشارة إلى أن أسباب تأييد الرئيسين سليمان وميقاتي للنسبية، من حيث المبدأ، تختلف عن أسباب حماسة «حزب الله» – القوة الفعلية خلف الحكومة الحالية – وحليفه الشيعي رئيس مجلس النواب نبيه برّي للتمثيل النسبي. ففي حين من مصلحة سليمان وميقاتي، اللذين لا يمثل أي منهما أكثرية داخل طائفته، أن يبقيا على قاعدة شعبية صغيرة محفوظة لهما سيُقضى عليها حتما في غياب التمثيل النسبي، فإن تأييد التحالف الشيعي للنسبية يقوم على اعتبارات أهم بكثير، أبرزها ما يلي:
أولا، أن التحالف الشيعي يمارس السياسة في لبنان وهو مدعوم – حصرا – بسلاح «حزب الله».
ثانيا، أن الطائفة الشيعية من الناحية الديموغرافية هي أسرع الطوائف اللبنانية نموا.
ثالثا، بفضل الدعم الإيراني المباشر لـ«حزب الله» وسنوات الاحتضان السورية لحركة «أمل» برئاسة الرئيس بري، تتمتع الطائفة الشيعية اليوم بأكبر الموارد المالية بين الطوائف اللبنانية، وكذلك المواقع الأكثر تأثيرا داخل مؤسسات الدولة الرسمية.
رابعا، يشكل الصوت الانتخابي الشيعي الملتزم بـ«حزب الله» ثقلا مؤثرا في الدوائر الانتخابية المختلطة طائفيا. وكان هذا الثقل وراء تضخيم حجم الكتلة النيابية التابعة للنائب ميشال عون، وبفضل هذا الثقل غدا عون جزءا من استراتيجية «حزب الله» للهيمنة على لبنان، كحلقة من حلقات سيطرة طهران في المنطقة. ومن هنا يجب تفسير مواقف عون وأقواله الأخيرة حول منطقة الخليج. وفي المقابل، يجوز استغراب كلام البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي، بالأمس، عن «السلاح غير الشرعي»… في حين لا يبدو أنه يثير موضوعه مع عون الذي يرتبط معه بعلاقة طيبة جدا.
خلال الأسابيع الأخيرة، تطايرت التهم القائلة إن الغاية عند بعض الأفرقاء من تعدّد طرح المقترحات والاعتراض عليها.. هي التمهيد عمليا لتأجيل الانتخابات.
ولكن، أصلا لماذا يكون إجراء الانتخابات مسألة بمثل هذه الأهمية الاستثنائية؟ هل الانتخابات غاية في حد ذاتها.. أم هي وسيلة للتعبير عن رغبات الشعب؟ وما هي أهمية الانتخابات إذا كانت رغبات الناس غدت مشهدا هامشيا في الواقع السياسي اللبناني؟
واقع الحال أنه لا يوجد توافق بين اللبنانيين على الأسس التي ينبغي أن يبنى عليها الوطن، وتقوم عليها فكرة المواطنة. وخطاب الكراهية والحقد الذي يصدر عن قوى ديماغوجية وطائفية في كل مناسبة يوحي بأن الوطن ما زال مغيبا، وبناء عليه سيكون من العبث انتخاب نواب قد يمثلون أي شيء إلا وطنهم.
ثم لئن كان اللبنانيون قد عاشوا لسنوات كثيرة من دون الحاجة إلى تجديد دماء برلمانهم، بفعل الحرب الطاحنة التي مزقت البلاد، هل نجح اللبنانيون في تحصين بلدهم ضد جراثيم الحرب الأهلية.. التي تتسرب إليهم من شقوق الحدود اللبنانية – السورية، بل يدفعهم إليها دفعا النظام السوري، الذي ما زال بعض اللبنانيين يراهنون على قدرته على قتل شعبه وإخضاعه.

التعليقات