مصر الكبرى

12:47 مساءً EET

كتاب «في سوسيولوجيا المثقفين العرب»: تعريف الثقافة والمثقف من جديد

على الرغم من استحواذ خطاب المثقف، وهويته، وتاريخه، ودوره، وموقعه في الوجود السياسي والاجتماعي العربي، على حيز كبير في فكرنا الايديولوجي المعاصر، لا يزال مفهوم المثقف من المفاهيم الملتبسة والاشكالية. فمن هو المثقف في العالم العربي؟ وماذا يكتب؟ ولمن يكتب؟ وما هو دوره وتأثيره المجتمعي والسياسي والثقافي؟ وهل الثقافة العربية المعاصرة مأزومة؟ واين تكمن ازمتها؟

اسئلة اشكالية جهد في التصدي لها والاجابة عليها احمد مفلح مفلح في "سوسيولوجيا المثقفين العرب" بدءاً بسؤال الهوية. فهل المثقف العربي هو الذي يكتب ويفكر بالعربية ولقارئ عربي؟ اهو المتخصص في علم من العلوم ام هو منتج الافكار وناشرها؟ اهو الايديولوجي المبشر بمشروع تغييري ام هو العارف بغض النظر عن موقفه الايديولوجي؟ هل هو الفقيه او العالم او التقني او الباحث الاكاديمي؟ وهل يمتلك سلطة في المجتمع؟ وهل ازمته ذاتية ام بفعل الظروف المحيطة به؟ وبالتالي هو الى اين؟
ازاء هذه التساؤلات، استنتج المؤلف ان كثرة تعريفات المثقف ودوره ووظيفته وصفاته، في الادبيات العربية تظهر عكس ما نصبو اليه اذ كلها تعريفات غربية نشأت في بيئة غير البيئة العربية، مرتكزة على غرامشي وسارتر في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. وكردة فعل زعم البعض ان الثقافة هي بضاعة عربية اسلامية، وان الكاتب والعالم والفقيه والامام كانوا يقومون مقام مثقف اليوم. لكن الغرب اياً تكن التعريفات، يبقى المحرّض والمستحضر لمفهوم المثقف.
اما عملية التطور الفكري والابداع فتقوم على ثلاثة ركائز تتداخل فيما بينها، اولها المثقف باعتباره منتج الابداع، وثانيها الكتاب اي اداة نشر هذا الابداع، وثالثها القارئ اي المتلقي والمنفعل. وفي رأي المؤلف ان المثقف هو الشخص الذي يمارس العمل الذهني وينتج الآداب والعلوم والفنون ويخترع التكنولوجيا. لكنه بالاخص هو المفكر الذي يأخذ موقفاً شمولياً من المجتمع، ويحس انه هو وحده المسؤول عن الاصلاح والتغيير ورفع الظلم، وانه صاحب رسالة يجب ان يمارسها كي لا يصبح وجوده زائداً وغير ضروري. ويعاني المرتكزان الثاني والثالث للثقافة اي الكتاب والقارئ ازمة عميقة بسبب الامية وضمور الاسواق ودور الرقابة السلبي وضعف البنية المالية عند الناشرين والقراء.
يدرس المؤلف شخصية المثقف العربي ونتاجه من خلال مجلة "المستقبل العربي" باعتبارها حقلاً صالحاً للبحث، فهذه المجلة تصدر من دون انقطاع منذ عام 1978 وهي محكمة علمياً، وبلا هوية قطرية، وتوزع في مختلف الاقطار العربية، ولم تدخل في مواجهة مع اي من السلطات السياسية العربية.
الاشكالية التي يطرحها الكتاب هي ان ثقافتنا اليوم مأزومة، فهي تعيش في ظل نصوص ومعارف راسخة موجهة للقناعات والسلوك. وهي "نقلية" ترفض التغيير، يتنازعها صراع الاصالة والمعاصرة والانا والآخر، ولا تزال بعيدة عن روح النقد والفكر العلمي المؤسس لمجتمع المعرفة.
وبالتساؤل عن فاعلية المثقف العربي خلص المؤلف الى استنتاجات اساسية:
أ اهتمامات المثقفين ومواضيعهم وافكارهم واساليبهم متشابهة الى حد بعيد في كل البلدان العربية.ب المجتمعات العربية هي مجتمعات ذكورية.ج آراء المثقف وتأثيراته نخبوية ضيقة.د عملية التواصل بين المجتمعات العربية شبه مقطوعة والتكامل بين المثقفين شبه مفقود.
وفي محطة اجمالية توصل المؤلف من الناحية السوسيولوجية الى ان مصر تحوز على اكبر نسبة من الكتاب لتاريخها الحضاري والعريق، يليها لبنان الذي يتمتع بتاريخ طويل من الانفتاح والحرية. وتبين ان البلدان الخليجية لم تساهم في الثقافة العربية، وان دول المغرب العربي انشط في الانتاج الثقافي من بعض دول المشرق مثل سوريا، ذاهباً الى ان ثمة انفصاماً واضحاً بين الواقع المجتمعي والفكر العربي لأن هذا الفكر مستورد من الغرب من غير نقد. ليستنتج ان المثقف العربي مسلوب المكانة، لا رأي له، انسحب او هاجر مخلياً الساحة للسلطتين السياسية والدينية، يتحالفان ضد التغيير ويأخذان المثقف رهينة، فبات الامل مقطوعاً في التغيير عن طريق الفكر، معقوداً على ثورات الشباب الراهنة في العالم العربي اليوم. لكن على اي اساس سيتحرك هؤلاء والى اي افق يتجه حراكهم؟ الامر الذي لا اجابة عليه حتى الآن.
نرى اخيراً ان المؤلف وإن كان قد اضاء على مجلة "المستقبل العربي" كمعلم رئيس من معالم التنوير العربي استقطب الشريحة الاوسع من المثقفين والكتاب العرب منذ الربع الاخير من القرن الماضي الى اليوم، الا انه لم يقارب في العمق الابعاد الايديولوجية الثقافية والسياسية التي شكلت المجلة حاضنتها على مدى عقود، وظل كتابه على هامش هذه الابعاد بكل ما احتوته من اصالة وثراء، في حين كان من الممكن على اساسها بناء تصور تاريخي للفكر العربي المعاصر وتوجهاته ومستقبله. وبشكل عام يعاني الكتاب من صياغة متسرعة يطغى عليها الطابع التجميعي مترافقاً مع فقر ايديولوجي، ورؤية نقدية هامشية، اضافة الى ان الخلاصات التي توصل اليها تبقى محدودة ومتواضعة ولا تضيف كثيراً الى الآراء المتداولة والشائعة في الفكر العربي المعاصر. ويبقى لدينا بعض الملاحظات على هامش الكتاب:
أ تركيز المؤلف على ازمة الثقافة العربية، من دون التركيز على مدى ترابط ازمة الثقافة بأزمة الواقع المجتمعي والسياسي والقومي العربي.ب – تشديده على ان الفكر العربي مستورد من الغرب من غير نقد او تعريب، وان المثقف العربي مسلوب المكانة المؤثرة، منسحب من الحياة العامة، وفي الوقت نفسه يقرر ان ثورات الربيع العربي هي ارهاصات نادى بها بعض المثقفين العرب. ومن جهتنا نرى ان مقولة "الاستيراد" باتت مفوتة وغير ذات معنى في عصر الانترنت وانفتاح الحضارات العالمية على بعضها البعض حتى باتت وكأنها واحدة. كما نرى ان للمثقف العربي ابداعاته الاصيلة، وانه ليس غائباً عن الساحة بل كان حاضراً على الدوام منذ عصر النهضة العربية الى اليوم وقد دفع اثماناً باهظة لمناداته بالتقدم والحرية على كل المستويات.ج من الخطأ القول ان البلدان الخليجية لم تقدم مساهمة في الثقافة العربية، اذ في ذلك شطب لاسهامات مثقفي هذه البلدان في مجلة "المستقبل العربي" التي هي موضوع الكتاب، فضلاً عن اسقاط قامات بحثية وفكرية خليجية كبرى مثل خلدون حسن النقيب ومحمد جابر الانصاري وعبد الله القصيمي وسواهم.

التعليقات