أفضل المقالات في الصحف العربية

08:55 صباحًا EET

تحية للجنادرية

حينما انطلق المهرجان الوطني للتراث والثقافة في عام 1405هـ كان المجتمع السعودي (إذ ذاك) منخرطا في مجالات التنمية، ومستشرفا ملامح التطوير وآفاق النهضة بكل أبعادها ومستوياتها، وحريصا على تتبع مظاهر المدنية والتحضر في مناحي الحياة كافة؛ سواء الاجتماعية منها أو الاقتصادية أو الثقافية أو العمرانية، فجاء انطلاق مهرجان الجنادرية في تلك الحالة الاجتماعية الاستثنائية بصفته نواة لشجرة أصبحت وارفة الظلال في عامها الثامن والعشرين، يستظل تحتها تراثنا الوطني بكل أطيافه، ويفوح من أوراقها عبق الماضي وأرج التاريخ، وتغرس جذورها في أعماق هذه الأرض الطيبة المباركة، ليكون أصلها ثابتا وفرعها في السماء.

مهرجان الجنادرية نموذج حي وواقعي للأفكار الرائدة التي تولد في أذهان العظماء. إنها الفكرة التي انبثقت من ذهن رائد الحفاظ على تراثنا الوطني سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز (حفظه الله)، فتعهد هذه الفكرة بالمتابعة والتوجيه بالتطوير وتوفير السبل كافة. وهكذا تمكّن هذا المهرجان من أداء المهام والأهداف المناطة به، ليصبح مهرجان الجنادرية عرسا ثقافيا ومناسبة لاجتماع التراث الوطني في مكان واحد، وحلقة تربط الماضي الأصيل بالحاضر المشرق، والخيط الذي انتظم عقد التراث ليعزز لدى الأجيال الناشئة الاعتزاز بهذا الموروث الوطني الغني، وليقفوا أمام هذا المنجز الحضاري والتراثي والثقافي الثري الذي صنعته سواعد الأجداد وحافظت عليه بصدق وإخلاص، وليطلعوا على مظاهر الوحدة الوطنية التي استطاعت أن تؤلف بين القلوب والأنفس، وأن تحتوي التراث بمختلف أطيافه.
إنه المهرجان الذي يتيح لجميع أفراد المجتمع وشرائحه وفئاته، من دون استثناء، أن يعيشوا تجربة تراثية متكاملة، وأن يطلعوا على صفحات مضيئة من تاريخنا وتراثنا الوطني العظيم، بعد أن كان وجودها محصورا في الكتب التاريخية والمناهج الدراسية.
ولا شك أن مثل هذه المناسبات الثقافية والتراثية هي محط التقدير والاهتمام والدعم الكبير من قبل سيدي صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، الذي حفلت حياته بالعديد من المبادرات الطموحة والمشاريع النموذجية التي تسعى إلى الحفاظ على التراث بصفته أحد المكتسبات الوطنية التي تجب المحافظة عليها، وتعزيزها في نفوس الناشئة. ومن ذلك مشاريع التراث العمراني التي دعمها سموه في منطقة الرياض على مدى أكثر من نصف قرن، حتى استطاعت أن ترسخ الهوية العمرانية التراثية، التي تعد رموزا تاريخية ومعالم حضارية تحكي قصة الوحدة الوطنية المباركة، وتربط الأجيال الشابة بمآثر الأجداد الخالدة ومبادئهم السامية وقيمهم النبيلة.
إن استمرار وهج مهرجان الجنادرية في كل عام، وتواصل عطاءاته على المستويات كافة؛ سواء الفكرية منها أو التراثية أو الثقافية أو الاجتماعية، كان مرهونا بقدرته على مواكبة الأحداث والمتغيرات المحيطة به، وتوظيف المستجدات المحلية والإقليمية والدولية لخدمة غاياته، ومواصلة نهج التطوير والتحديث في كل عام حتى أصبح اليوم أهم تظاهرة وطنية للتراث والثقافة، بل رائدا للمهرجانات الثقافية في المنطقة. ولم يتأت ذلك للمهرجان إلا بفضل الله أولا وتوفيقه ثم بفضل الرؤية الثاقبة والتوجيهات السديدة لخادم الحرمين الشريفين (حفظه الله)، والإدارة الحكيمة من قبل صاحب السمو الملكي الأمير متعب بن عبد الله بن عبد العزيز وزير الدولة عضو مجلس الوزراء رئيس الحرس الوطني رئيس اللجنة العليا للمهرجان، الذي استطاع أن يُلبس المهرجان حلة جديدة في كل عام، ويفرضه على قائمة أهم المهرجانات الثقافية، ليس على المستوى الوطني فحسب، بل وعلى المستوى الإقليمي والدولي، وذلك من خلال استقطاب العديد من المفكرين والمثقفين والكتّاب ضمن البرنامج الثقافي للمهرجان، الذين يسهمون بأطروحاتهم الفكرية في مناقشة العديد من القضايا الراهنة التي تفرض نفسها على المشهد الثقافي والاجتماعي والفكري. وبذا تُبرهن رئاسة الحرس الوطني التي تُلقي بثقلها لدعم هذا المهرجان على أن من مهامها حماية تراثنا الوطني والمحافظة عليه والاعتزاز به، لما لذلك من انعكاس إيجابي ومباشر على تحقيق مهامها الأساسية في المحافظة على الأمن والاستقرار الداخلي، وذلك من خلال تعزيز اللحمة الوطنية، وتوثيق أواصر الانتماء، وتعميق أسس الوحدة. فالدول اليوم أصبحت تعزز استثمارها في البعد الحضاري والثقافي كجزء من بناء الوحدة الوطنية والصورة التي تبرز مكانتها بين الأمم، والمملكة اليوم تزخر بتراث عميق، وتعتزّ بمكوناتها الثقافية والحضارية أكثر من أي وقت مضى.
إن التراكمات المعرفية والثقافية التي استطاع مهرجان الجنادرية أن يرسخها خلال الأعوام الثمانية والعشرين الماضية بدأت تؤتي ثمارها، بل إننا أصبحنا نلمس، بحكم المسؤولية في الهيئة العامة للسياحة والآثار، نقلة نوعية في النظرة إلى الموروث الوطني، وشهدنا تحول النظرة تجاه التراث من الازدراء إلى الاعتزاز. وبعد أن كنا نسعى إلى إقناع المجتمع بأهمية المحافظة على التراث الوطني لارتباطه العميق بهويتنا الوطنية وإرثنا التاريخي والحضاري، بدأ المواطنون والمجتمعات المحلية يطالبون الهيئة بحماية المواقع التراثية في مناطقهم والحفاظ عليها وتأهيلها لتكون شاهدا على الإرث الوطني المرتبط بكل منطقة، ولتؤكد ما تمتاز به المملكة من بعد حضاري وعمق تاريخي، ولإدراكهم أن ذلك سيكون له مردود اقتصادي كبير يعود عليهم بالنفع والفائدة، وذلك من خلال دعم وتنشيط الحركة السياحية والاقتصادية في مناطقهم، وما يستتبعه ذلك من توفير فرص العمل، فنحن ننطلق من قناعة راسخة بأن الهدف الأساسي من أي تنمية هو الإنسان السعودي في المقام الأول.
لقد بدأ كثير من المواقع في بلادنا الغالية يتحول من مواقع أثرية وقرى تراثية وأواسط مدن خالية من الحياة، إلى مواقع تضج بالحياة ويعيش فيها الناس ويؤمها المواطنون وأسرهم. فنحن نريد لتلك المواقع أن تتحوّل إلى مورد اقتصادي، كما هو الحال في أنحاء العالم اليوم. ونريد أن يجد فيها المواطن الفرص الاستثمارية، وأن تكون موردا غزيرا لفرص العمل للمواطنين رجالا ونساء، وأن يجد فيها المتعة وهو يستثمر ويقدّم خدمة لأخيه المواطن، كما يجد فيها المتعة وهو يحتفي بتراث بلاده، هذه المواقع مناجم من الفرص الكامنة وآبار نفط غير ناضبة يجب أن نهيئها للمواطنين كي يغتنموها ويستثمروها.
ومن المنطلقات السابقة، تبنت الهيئة العامة للسياحة والآثار مبادرة البعد الحضاري التي تسعى من خلال مشاريعها وبرامجها إلى التأكيد على أن حضارة المملكة غنية ومتأصلة في تاريخها وموروثها، وأن العناية بتراثنا الحضاري جزء لا يتجزأ من تاريخ وحدتنا الوطنية المباركة، وهذا الجزء من تراثنا الحضاري لا يزال مغيّبا بشكل كبير عن ذهن المواطن وثقافته وحياته اليومية. والنموذج المتفرد لمهرجان الجنادرية وقدرته على رسم صورة إيجابية عن تراثنا الوطني وتعزيزه في أذهان الأجيال الناشئة، هو النموذج الذي نرغب في الاحتذاء به، من خلال تنفيذ مشاريع على أرض الواقع في جميع مناطق المملكة يشاهدها المواطن ويستفيد منها ويطلع عليها بشكل يومي وعلى مدار العام، وذلك بتهيئة المواقع الأثرية والتراثية والطرق التاريخية وفتحها للزوار، وعددها أكثر من 120 موقعا، وإنشاء 11 متحفا في المناطق والمحافظات، وإدراج 64 قرية ضمن برنامج تنمية البلدات والقرى التراثية، وتأهيل 10 من المباني التاريخية في عهد الملك عبد العزيز (طيب الله ثراه)، وتطوير وتأهيل 7 أسواق شعبية، وإنشاء 15 موقعا لمقرات دائمة يعمل فيها الحرفيون، وتُعرض فيها الصناعات اليدوية، وغيرها من المشاريع التي تجسد تراثنا الوطني ولا يتسع المجال لحصرها.
إن رؤية الهيئة العامة للسياحة والآثار لمبادرة البعد الحضاري للمملكة من خلال المشاريع السابقة، وفي حال إقرارها وتمكين الهيئة من تنفيذها، من شأنها إخراج التراث الثقافي والبعد الحضاري للمملكة من بطون الكتب إلى أن يكون واقعا وحضارة يعيشها المواطن بشكل يومي على أرض الواقع، وذلك عبر الأمكنة التي تشكل ذاكرة هذه البلاد التي يتلاقى فيها مع أبناء وطنه، وهو يتجوّل في هذه البلاد الجميلة، ويستمتع بمقوماتها الحضارية والتراثية مع أسرته أو أصدقائه وزملائه. فهذه المواقع يجب أن تكون مقصدا للشباب، حتى يستذكروا هذه الوحدة الوطنية المباركة التي قامت في هذه الأرجاء المترامية التي جمعها الله سبحانه وتعالى بكلمة التوحيد، ثم بأهلها المخلصين المحبين لبلادهم تحت راية الموحد، وأن تتحول هذه المواقع إلى أماكن يجد فيها المواطن غايته في الاطمئنان في بلده، سائحا أو زائرا، والالتقاء بالمواطنين الآخرين والتعرف على بلاده. ومن خلال تجربتي وقربي من قطاع السياحة الوطنية، اكتشفت أن أغلب المواطنين لا يعرفون هذه البلاد الغنية بمواردها كما يجب، ونحن في الهيئة العامة للسياحة والآثار نعتقد أن مشاريع العناية بالتراث الحضاري ستحدث النقلة المنشودة تجاه معرفة المواطنين بتراثهم الوطني واعتزازهم به، وارتباطهم بمظاهر الوحدة الوطنية المباركة، وستعيد الاعتبار إلى تلك المواقع التراثية، وتحقق التوازن بين الأصالة والمعاصرة، وتمزج بين عبق الماضي ومنجزات الحاضر واستشراف المستقبل.

التعليقات