أفضل المقالات في الصحف العربية

08:06 صباحًا EET

قبائل بـأعلام

‘قبائل بأعلام’ جزء شهير من عبارة، قالها يوماً تحسين بشير 1925- 2002، الدبلوماسيّ المصريّ الشهير، الذي شغل مناصب دبلوماسيّة وإعلاميّة عديدة، فكان المتحدّث الرسميّ باسم الرئيسين جمال عبد الناصر، وأنور السادات، وباسم الوفد المصريّ الرسميّ في مؤتمر السلام بجنيف 1973، وكان سفير مصر الأسبق في كندا، ومندوب مصر لدى الجامعة العربيّة.

أمّا العبارة الكاملة، التي ذهب جزؤها مثلاً، والتي قالها هذا الدبلوماسيّ العريق، فهي:‘مصر هي الدولة – الأمّة الوحيدة في المنطقة العربيّة، وما تبقّى مجرّد قبائل بأعلام’، وقد صرّح مرّة أخرى: ‘حينما تنهار تلك الرقاقات chips سيكون هناك مكان واحد حقيقيّ فقط داخل المنطقة، إنّه مصر’.لقد ساقت تلك العبارة الصحفي الأميركي تشارلز غلاس، والمعروف بكتاباته عن الشرق الأوسط – حيث عاش في هذه المنطقة أثناء حرب أكتوبر، والحرب الأهليّة اللبنانيّة، وكان مراسلاً لشبكة إي بي سي الأميركيّة – إلى أن يعنون كتابين له بهذا العنوان. الأوّل: ‘قبائل بأعلام: الممرّ الخطير عبر فوضى الشرق الأوسط’، والذي كتبه عام 1990، والثاني: ‘قبائل بأعلام: الرحلة المختصرة’، والذي نشر عام 1992.لاشكّ في أنّ رؤية السفير الراحل صائبة إلى حدّ كبير، وتحمل معها مسوّغاتها، فقد قدم من الإسكندرية الباذخة في تنوّعها، وعاش ذروة التعدّد الثقافيّ فيها، أثناء الحرب العالمية الثانية، وشهد ذلك الحراك الثقافي ودمقرطة الفكر، ممّا جعلها نموذجاً لافتاً لمركز كوزموبوليتانيّ. لقد كانت مصر دولة راسخة الملامح والأركان، حينما كانت البلاد العربيّة عام 1917 تحاول النهوض لتكون دولاً حقيقيّة، وكان لدينا مشروعان مشرقان حقّاً: العراق، وسورية.قاوم العراق محاولات الانهيار كلّها، إلى أن تمّ التمكّن منه بتنمية الرغبات النفسيّة المتطرّفة لدى رأس نظامه. وظلّت سورية دولة بمعايير نظاميّة راسخة، وصمدت رغم كلّ التحوّلات الجيوسياسيّة في المنطقة، ورغم كلّ الفساد الذي نهشها في الداخل. لكن كلّما جاءت إرادة تجعل منها دولة مدنيّة فذّة، خرجت إرادات أخرى لتقاوم هذا المشروع.تساوت في هذه المرحلة، الدولة التاريخيّة المتمثّلة في مصر،على حدّ رأي صاحب (قبائل بأعلام)، مع مشروعي الدولة المدنيّة في كلّ من العراق، وسورية، في أنّ الجميع دخل حالة نكوصيّة، لا تبدو نهايتها واضحة للعيان. لقد أجهضت كلّ محاولات التمدين والتنمية بفكرة واحدة، أرادت تغريب ثقافة المنطقة، لتصير خارج سياقها التاريخيّ، فترسم من جديد خريطتها، إنّها فكرة تجهيليّة، واحديّة، تريد أن تعود بالبنية الاجتماعيّة إلى الوراء. إنّ مجموعة العمليّات التي تتفاعل الآن تحدث حراكاً عكس حركة التاريخ، ولن تستجيب له المنطقة في الوقت الحاضر على الأقل، لأنّ استجابات البنى الداخليّة لهذه الفكرة ليست واحدة، والذي سيصير، هو أنّ المنطقة ستغدو لوقت طويل بلا خرائط .لعلّ ما يحدث في هذه المرحلة من عمليات كرّ وفرّ، وسلب ونهب، وسرقة، وفدية، وذبح، وسبي، وما يفعله اللاحقون بالسابقين، هو صورة مكرّرة بالسحب، وخارجة من كتاب ابن قتيبة (الإمامة والسياسة). والأكثر وضوحاً في هذا التشكيل هو تحالفات أشبه ما تكون بتحالفات (غزوة الخندق)، والمعروفة بغزوة (الأحزاب).لابدّ هنا من أسئلة تبعث على كثير من الرثاء: أين الفكر القوميّ، وأين أصحابه الذين حاربوا القبليّة، والطائفيّة، والجهويّة، والعشائريّة، والمحسوبيّة… وكلّ المصادر الصناعيّة والميميّة الأخرى؟أين أصوات أصحاب دعوات المجتمع المدني، والليبراليّة، والتمكين، والانفتاح، والمأسسة؟ستأتي الإجابات أكثر مأساويّة، حينما نجد معظمهم انساق وراء تلك الفكرة التجهيليّة، ورضي بأن يقوده الفكر الرجعيّ، بكلّ ما لهذه المفردة (الرجعيّة) من انبعاث بركانيّ، إنّهم يقتلون فكرة التمدين بنيرانهم الصديقة! وكيف يمكن للفرد الذي يعي وجوده، أن يؤمن بسلطات تلعب بمصيره، مرّة تجعله يعيش قوميّاً، ومرّة ماركسيّاً، ومرّة إسلاميّاً…سيبقى المثقف نخبويّاً، بل عليه أن يبقى نخبويّاً، لا يسير وراء فكرة أقلّ نضجاً من فكرته، فمهما كان هذا المثقّف عضوياً لابدّ له من وعي فرديّ. إنّ المثقّف ينماز بفكرة الثقافة، وهو ليس كما أريد له أن يكون، وليس كما أرادت بعض الأنظمة بفكرة طوباويّة، أو ربّما غبيّة، أن تجعل الثقافة امتيازاً عامّاً.طوبى للمثقف الذي ظلّ متمسكاً بفكرته! من دون أن يمارس أو يستجيب للتهويش، أو للعنف المعنويّ، الذي هو فكرة بدائيّة قبليّة، لا تختلف عن أصل فكرة نقائض جرير، والفرزدق، والأخطل. وحيث أنّنا عرّجنا على الشعر، فليس لنا إلاّ أن نقرأ من باب الموضوعيّة، أفكار من سمّيناهم بالشعوبيين من الشعراء. هل قالوا ما ليس فينا حقّاً؟!لقد انشقّ أبو نواس عن الأنساق برمّتها، وعاش فكرة التغريب الذاتيّ، وسواء أكان مدفوعاً إديولوجيّاً أم ليبراليّاً، فقد قال قولة أنثروبولوجيّة ثقافيّة لا تنكر:قالوا ذكَرْتَ ديارَ الحيّ من أسَدٍلا دَرّ درّكَ قلْ لي من بَنو أسَدِو مَن تميمٌ، ومنْ قيسٌ وإخوتُهُمْ،ليس الأعاريبُ عندَ اللهِ من أحَدِوبالعودة إلى ما بدأنا به، إلى العبارة الثقافيّة الشهيرة (قبائل بأعلام)، لا بدّ من أن نشيرإلى أنّ السفير تحسين بشير ذاته، لو عاش ما نعايشه اليوم، لكان له قول آخر في مصر وأخواتها!
 

التعليقات