كتاب 11

03:03 مساءً EET

الاستثمار في الإنسان

في عام 2014 سجلت البحرين 60 ألف مولود جديد بزيادة كبيرة لمتوسط النسب في السنوات السابقة، حيث كانت نسبة المواليد الجدد في حدود العشرين ألف تقريبا. ما يهمني من هذا الرقم هو التحدي الذي سيشكله لسوق العمل ولإيجاد عدد كافٍ من فرص العمل المناسبة، وما سيتطلبه من تخطيط مسبق وإعادة مراجعة لنظام التعليم بحيث تتناسب مخرجاته مع احتياجات سوق العمل.
مواليد 2014 سيدخلون سوق العمل على فترات متقاربة، فمنهم من سيكمل تعليمه الجامعي والقليل منهم سيدخل سوق العمل قبل أن يكمل تعليمه الجامعي. ولكن لو افترضنا أن نصفهم سيكمل التعليم الجامعي يعني ذلك أننا سنكون بحاجة إلى خلق 30.000 فرصة عمل تتناسب مع حاملي الشهادات الجامعية في عام 2036، ويبقى السؤال هل نمتلك خطة واضحة المعالم لتطوير وتأهيل سوق العمل لكي يستقبل هذا العدد الكبير من الباحثين عن عمل يتناسب مع مؤهلاتهم العلمية؟
وفي اعتقادي أن خطة تطوير التعليم التي طرحت ضمن مشروع رؤية 2030 كانت شاملة، ولكنها للأسف لم تفعل بالشكل المطلوب واختزلت بهيئة ضمان جودة التعليم ولم تُعطِ الهيئة الصلاحيات الكافية لتساهم في تطوير التعليم وتحسين مخرجاته بما ينعكس على فعالية سوق العمل في البحرين، وحتى تقارير وتوصيات الهيئة «الصادمة» والمهمة لم نرَ لها أثرًا يذكر على أرض الواقع، ولو أخذت بعين الاعتبار، وتم تضمينها ضمن عمليات إعادة التقييم الواجب عملها باستمرار لأداء أي جهة لكننا الآن نجني ثمار النجاح.
وبالنظر إلى نوعية التعليم والتخصصات المتاحة سواء في المدارس الحكومية أو الجامعات (الحكومية والخاصة) سنتوصل إلى استنتاج أن الفائض في تخصصات معينة سيكون أكثر بكثير من حاجة سوق العمل مما سيضطر العديد من الخريجين إلى أن يقبلوا العمل في مجالات تختلف عن شهاداتهم، وهذا هدر كبير في موارد الدولة وبالإمكان توظيف هذه الموارد بشكل أفضل، ما يساهم في نمو الاقتصاد ومؤشرات التنمية ويجعل من البحرين دولة أكثر إنتاجية وفعالية.
ويمكن أن ندخل في تفاصيل أكثر ولكن لنجنب القرّاء هذه الدوّامة سنختصر الموضوع بالنظر إلى أمثلة لتقريب الصورة. كون البحرين دولة محدودة الموارد بكثافة سكانية عالية مقارنة بصغر مساحتها ولكي نخلق عددا كبيرا من الوظائف يتناسب مع الحاجة لجيل 2014 سنحتاج إلى أن نؤهل سوق العمل لاستيعاب هذا العدد الكبير من الباحثين عن العمل، فمثلا بالإمكان التركيز على استقطاب الشركات العالمية التي تحتاج إلى عدد كبير من الموظفين المختصين (multinational corporations) مثلما نجحت البحرين في السابق أن تكون المقر الإقليمي لعدد كبير من البنوك الأفشور وساهم وجودها في توظيف عدد كبير من البحرينيين الذين أثبتوا جدارتهم وتبوأ الكثير منهم المناصب القيادية بعد التدرج في السلم الوظيفي وبالتالي انعكس ذلك على سمعة البحرين ومكانتها كمركز مالي للمنطقة.
وبالإمكان فعل ذلك ولكننا بحاجة إلى تخطيط سليم وتنفيذ دقيق لإنجاح هذه المهمة. فعلى وزارة التربية والتعليم أن تعيد النظر في التخصصات ونوعية التعليم المطلوب لكي يكون المواطن البحريني هو الخيار الأنسب لهذه الشركات ويكون المواطن البحريني هو عنصر الجذب الرئيسي والقيمة المُضافة (value added) لاتخاذهم البحرين مقرا إقليميا لهم.
فالاستثمار في الإنسان هو أساس النجاح والتعليم هو عاموده، وعندنا أمثلة عديدة يمكن أن نستمد منها الأفكار ونستفيد من تجاربها الناجحة مثل كوريا الجنوبية وكيف استطاعت أن تتغلب على ضعف مواردها وفقرها الاقتصادي وتعرضها لحروب مدمرة وازمات عديدة وجار ل اتحسد عليه (كوريا الشمالية). استطاعت كوريا الجنوبية أن تتغلب على كل تلك الصعاب وأن تصبح من أقوى وأهم الاقتصاديات في العالم عن طريق تطوير جودة التعليم وجعل مخرجاته تتناسب مع احتياجاتهم المخطط لها، فأصبحت اليوم تتفوق على اليابان في العديد من المجالات الصناعية وتمتلك شركات مثل سامسونج التي تزيد مبيعاتها وحدها على مبيعات أكبر 9 شركات يابانية مجتمعة.
وتستطيع البحرين أن تركز كذلك على قطاع السياحة العلاجية عن طريق تطوير البنية التحتية لهذا القطاع وتدعيمه بخريجي كليات الطب البحرينية والعمل مع هذه الكليات على تطوير جودة التعليم لكي يكتسب خريجوها سمعة مميزة تساعد على زيادة فرصة نجاح البحرين في أن تكون عاصمة للسياحة العلاجية وكذلك التعليمية.
وبالنظر إلى العديد من الدول المتقدمة وذات النسب العالية في دخل الفرد وحجم اقتصاد الدولة، نجد أنهم في سعي مستمر لتطوير وتحسين جودة التعليم لكي يواكب متطلبات العصر ولا يكون جامدا بحيث يُخرج أجيالا في تخصصات لم يعد السوق بحاجة إليها. ولنا في الدول الإسكندنافية أمثلة ناجحة في هذا المجال، فالنرويج طورت نظام التعليم عندها ليشمل الجانب العلمي ويصقل شخصية الطلاب في الوقت نفسه، بحيث تتطور شخصية الطالب وأسلوبه في التحصيل العلمي مع مراحل الدراسة إلى أن يصل إلى مرحلة يصبح فيها المعلم مجرد مرشد وموجه للطلاب أما جانب التدريس فيكون من ضمن مسؤوليات الطالب. فيخصص لكل طالب يوم يكون فيه هو المدرس لزملائه الطلاب، فيعد للدرس ويستعد له كمدرس ويبقى جانب الإرشاد والتوجيه للمعلم، ولكم أن تتخيلوا شخصية الطالب هذا الذي يتعود على حمل هذه المسؤولية منذ المراحل التعليمية الأولى، هذا هو الاستثمار الأفضل للدول.
أما دور وزارة التربية والتعليم في زرع قيم المواطنة وغرس المفاهيم والسلوكيات السليمة وتعليم الطلاب تاريخهم ورموزه ممن كافحوا لكي يصل الوطن إلى ما وصل إليه فهذا الدور لا يقل أهمية عن كل ما ذكر ويجب أن يكون ضمن المناهج التعليمية بشكل مدروس وسليم لكي يكون بمثابة الحافز الوطني الذي يدفعهم إلى التفوق والتميز من أجل رفعة شأن الوطن وأخذ العبر التاريخية والأمل من قصص الكفاح والنجاح لرموز الوطن المخلصين.
فلا يمكن لأي دولة أن تزدهر وتتطور من غير الإنسان وكلما نجحت الدولة في الاستثمار في المواطن وعززت فيه روح الوطنية وسلحته بالعلم القوي ارتفع شأن الدولة وازدادت ازدهاراً وتطوراً.. الإنسان اولا وأخيرا.

التعليقات