كتاب 11

01:31 مساءً EET

ما الذي لا يفهمه الغرب؟

على رغم الوقع المؤلم لتفجيرات بروكسيل والتي راح ضحيتها 34 قتيلاً و170 جريحاً على الأقل، إلا أن هناك حدثاً آخر كان له وقع لا يقل دوياً عن تلك التفجيرات، وهي تلك الأنباء التي طفت على السطح بعد العملية الإرهابية، ومفادها أنه جرى تحذير السلطات البلجيكية من خطر الإرهابي الأول الذي نفذ هذه الجريمة البشعة، وهذا التحذير لم يمضِ عليه زمن طويل، بل هو حديث نسبياً.

إذ أعلنت تركيا أنها رحّلت هذا المجرم إلى أوروبا، وحذرت بلجيكا منه ومن أنه قد يكون متطرفاً. هناك أيضاً خبر يتحدث عن أن أحد الإرهابيين الآخرين مطلوب في بلده الأم، لوجود جريمة جنائية ارتكبها وصدر ضده حكم قضائي، وأن بروكسيل رفضت تسليمه بحجة حمايتها لحقوق الإنسان.

هذه النقطة تحديداً، هي ما يتوجب على الغرب التوقف عندها وتأمل آثارها، فدول أوروبية عدة، مثل بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وألمانيا وغيرها، يتم تحذيرها من إرهابيين ومجرمين من بلدانهم الأصلية، بل ويُطلب أن يتم تسليمهم، وتُرفق مع مثل هذه الطلبات ملفات قضائية كاملة، لتقوم هذه الدول الأوروبية بدرسها، إلا أنهم يرفضون التعاون، بحجة حقوق الإنسان!

عواصم مثل باريس ولندن تحوي مزيجاً من قادة وأتباع الجماعات الإسلامية المسلحة التي لها صولات وجولات من الجرائم الإرهابية في بلدانهم الأم، مثل الجزائر ومصر وتونس وغيرها، هؤلاء ينعمون ببرنامج المساعدات الاجتماعية في هذه العواصم، وفي اللحظة نفسها يلهبون الجالية المسلمة بخطبهم التحريضية المتطرفة ضد بلاد الكفر ودار الحرب، وإذا أوصدت المراكز الإسلامية في أوجههم أبوابها فلديهم الطرقات، إذ يغلقونها وتتعالى أصواتهم هناك بالخطب النارية المحرضة، وشاهدنا مقاطع فيديو عدة لمثل هذه الممارسات.

مشكلة معظم دول الغرب أنها تريد من الدول الإسلامية أن تكون أنموذجاً مطابقاً لها في كل شيء، وهذا مستحيل، فموضوع مثل حقوق الإنسان لا يمكن أن تكون الرؤية فيه واحدة، ولا يمكن أن تكون المنطلقات نفسها، وإن كنا نتفق والعالم بأسره على الخطوط العامة في مثل هذا الملف إلا أنه تحدث دوماً خلافات في التفاصيل التي تتعلق بالمحاكمات وغيرها من الإجراءات، فما يعتبر بديهياً في فرنسا ربما يكون جريمة في بلد آخر، وهذا التباين ليس بين الغرب والدول الإسلامية وحسب، بل بين الغرب ودول أخرى من العالم، مثل عدد من دول أميركا الجنوبية والصين وكوريا واليابان وغيرها، فكل دولة لها إرثها التاريخي ومبادئها العميقة الضاربة في الزمن، والتي ربما لا تتفق والقوانين الأوروبية.

هذه الهوة، أو إذا صح التعبير الاختلاف، ينتج منه خلل واضح في الثقة بين الدول وأجهزتها الأمنية، يؤدي في نهاية المطاف إلى وقوع مثل هذه الجريمة الإرهابية.

لا أعتبر أنه يوجد أي إنسان أو أي بلد في العالم يستحق أن يتعرض لمثل هذا الإجرام، ولأننا نتفق على مبدأ محاربة التطرف وجميع الحركات الإرهابية، فإننا يجب أن نتفق على حقوق كل بلد في سن قوانينه والدفاع عن نفسه ومجتمعه من هذه الاختراقات المميتة من مثل هذه الجماعات، وهذا يتطلب تنسيقاً أكبر، وعدم تصنيف الدول غير الأوروبية بأنها أقل اهتماماً ورعاية لحقوق مواطنيها.

لا أود القول إن سلاح حقوق الإنسان وشعاراته، التي لطالما رفعته كثير من الدول الغربية، ارتد عليها، وحان الوقت لتصغي وتتنبه لخطر ما كنا نردده طوال أكثر من عقد من الزمن، من تحذيرات تتعلق بنزوح الكثير من المتطرفين وهجرتهم نحو البلدان الأوروبية، ولعل في تجنيد الكثير من الفتيات والشبان الأوروبيين للانضمام لتلك التنظيمات مثل «داعش» خير دليل على تمكن هؤلاء المتطرفين من اختراق تلك المجتمعات، والذي كان نتيجة طبيعية لكل هذا الاسترخاء والراحة في التخطيط والتنفيذ، ووقوع عمليات إرهابية عدة، آخرها في بروكسيل.

بلجيكا بلد متسامح بكل ما تعني الكلمة، وكانت دوماً مميزة مع الإسلام والمسلمين، إذ قرأت بعد هذه الحادثة الإرهابية أنه ورد في كتاب «نزهة المشتاق» للشريف الإدريسي، حديثه عن بعض مناطق بلجيكا، وأن هناك كتابات قديمة تحدثت عن وجود الإسلام، ما يعني أن المسلمين وصلوا وعاشوا في بلجيكا منذ قرون. وملك بلجيكا الراحل بودوان الأول أهدى عام 1967 الملك فيصل بن عبدالعزيز – رحمه الله – جزءاً من متحف الآثار، والذي كان يقع في أجمل حدائق بروكسيل، ولا يبعد عن مقر المفوضية الأوروبية والمجلس الأوروبي سوى أمتار، لتقوم المملكة بتشييد مسجد ومقر للمركز الثقافي الإسلامي، وفي العام 1978 افتتح الملك خالد بن عبدالعزيز – رحمه الله – المركز الإسلامي الجديد، الذي تشرف عليه رابطة العالم الإسلامي منذ العام 1982.

كما أن القانون البلجيكي ينص على اعتبار عيدي الفطر والأضحى عطلة رسمية، وهي تعترف بالمساجد وتقوم بدفع نفقاتها، وتدفع رواتب لنحو 250 إماماً من أئمة المساجد شهرياً من وزارة العدل، ويجري تعليم وتدريس مادة الدين الإسلامي في المدارس، وتقوم أيضاً بدفع رواتب معلمي مادة الدين الإسلامي، ويقدر عددهم بأكثر من 800 معلم.

وغيرها من قيم التسامح والتقبل التي تنتشر في أوساط هذا المجتمع، لذا نحن نشعر بألم كبير نتيجة لهذه العملية الأثيمة الإرهابية، وندعو الغرب بصفة عامة، إلى زيادة الإصغاء والاستماع لدول العالم الإسلامي، بخاصة في القضايا التي تتعلق بالتطرف والجماعات الإرهابية، حتى لا تتكرر مثل هذه الجريمة البشعة التي تشوه النظرة العامة للإسلام والمسلمين، وتمس قيمنا الإنسانية الراقية المتسامحة والمحبة للآخر.

التعليقات