كتاب 11

12:29 مساءً EET

عندما الكل يفتي

عندما قررت جمهورية مصر العربية إعادة جزيرتى تيران وصنافير للمملكة العربية السعودية لم يأت قرارها من فراغ، بل كان مبنياً على وقائع تاريخية وثوابت قانونية أن هاتين الجزيرتين تعودان للمملكة العربية السعودية، لكن ما إن صدر قرار جمهورية مصر العربية بإعادة الجزيرتين حتى أصبح الألوف بل الملايين يتبوأون مركز الإفتاء وهم على غير هدى ولا علم ولا كتاب منير. إن القاعدة الأساسية لدى هؤلاء هى أن التناحر والتضاد والاقتتال بين الدول العربية هو القاعدة، أما التقارب والتآخى والتكامل والتعاضد بينها فهو النشاز.

ومن بعض الأقاويل والهراء الذى لا يدخل عقل أى شخص رشيد أن الرئيس عبدالفتاح السيسى باع أرضه التى سال دم المصريين حفاظاً عليها مقابل صفقة مع السعودية، أو أن الرئيس السيسى باع الجزيرتين مقابل ساعة رولكس ورشاوى من السعودية، مستندين إلى وثائق مزورة نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعى، كما نُشرت هاشتاجات مثل ‫#‏عواد_باع_ارضه و#‏الدولة_تدار_بالمزاد. وقد دفع هذا البعض ممن هم ضد النظام والبعض الآخر المغرّر بهم لأن يطالبوا بمظاهرات ضد القرار، ووصل الأمر إلى التشجيع على ثورة ضد نظام الحكم، والبعض ردد أنه لن ينتخب السيسى مرة أخرى بعد هذا القرار. هذا عدا عن بعض الإعلاميين المصريين الذين استغلوا هذا الحدث لإثارة الرأى العام أكثر وزيادة الإفتاءات، مثل الذى تردد أن الرئيس السيسى يضغط ويهدد كل من يُثبت مصرية الجزيرتين، والبعض الآخر ذكر أن الرئيس السيسى بهذا القرار كسر نفس المصريين وذلهم أمام السعودية وعمل الذى لم يعمله المخلوع مرسى. والبعض ذكر أن هذا سيفتح باب المطالبة بأراض مصرية من قبل دول أخرى، فمثلًا السودان سيطالب بحلايب وشلاتين، والآخر ذكر أن مصر بهذا القرار ستضع نفسها خلف السعودية وليس أمامها، وبذلك السعودية ستشترى قرارات مصر فيما يتعلق بشؤون المنطقة. هذا عدا الإعلاميين غير المصريين الذين استغلوا الأزمة، وغالبيتهم معروفون بمواقفهم العدائية ضد السعودية، كما أن مواقفهم من مصر لا تتسم بالإخلاص، ولكن كما يقال هو «اصطياد فى الماء العكر»، ومع ذلك ردد بعض المصريين ما كتبوه وكأنه ميثاق مصدق. فغالب الأمر أن كل ما يتردد من هؤلاء عبارة عن تصفية حسابات، إما مع السعودية أو مع الرئيس السيسى، أما الباقى فهم مُغرّر بهم أو يشعرون بأنهم أكثر وطنية وحرصاً على مصر من الرجل الذى أنقذ ليس مصر فقط فى 30 يونيو، بل المنطقة بأكملها من كارثة محققة. المضحك فى الأمر فى ظل كل هذه الزوبعة والإفتاءات أن البرلمان المصرى لم يصدّق على القرار إلى الآن، وأن الاتفاقية لن تدخل حيز النفاذ إلا بعد تبادل أوراق التصديق بين مصر والسعودية وليس فقط من خلال تصديق البرلمان المصرى عليها.

للأسف فإن هذه الإفتاءات والتحليلات غير المدروسة غطت على الأهداف الأساسية والاستراتيجية من زيارة خادم الحرمين الملك سلمان بن عبدالعزيز فى ظل أوضاع المنطقة المضطربة، فالسعودية ومصر دولتان لهما ثقلهما، وكل منهما مكملة للآخر، فمصر بحضارتها وبُعدها العربى والأفريقى، والسعودية ببُعدها الإسلامى وثقلها الاقتصادى، هما صمام أمان واستقرار للمنطقة.

أهم ما سيترتب على هذه الزيارة:

■ مشروع بناء «جسر الملك سلمان» الذى سيربط بين السعودية ومصر، ويعد الرابط الأول بين قارتى آسيا وأفريقيا الذى سيفعّل النشاط الاقتصادى والتجارى، وسيوظف عشرات الآلاف من العاطلين عن العمل، خاصة منطقة التجارة الحرة فى سيناء، مما سيضخ مليارات الدولارات فى الخزانة المصرية ويحسن أوضاع سكانها الذين أُهملوا لعقود حتى انخرطوا فى صفوف الجماعات الإسلامية المتشددة وفى أعمال غير قانونية. كذلك فإن هذه الزيارة ستثمر عن بناء جامعة فى سيناء، تجمعات سكنية، مشاريع صحية واستخدامات سلمية للطاقة النووية.

■ توقيع أرامكو السعودية والشركة العربية لأنابيب البترول (سوميد) فى مصر بزيادة ضخ البترول السعودى إلى أوروبا من خلال خط أنابيب سوميد. وبالتالى ستكون مشروعات سوميد الجديدة للتخزين مركز توزيع لمبيعات أرامكو من الغاز فى مصر والدول المجاورة، وتحويل منطقة سيدى كرير كمركز رئيسى لدعم تسويق مبيعات أرامكو من الخام لأوروبا.

■ إلغاء نظام الكفالة للمصريين العاملين فى السعودية يُعد من أولى نقاط مذكرة التفاهم التى كانت على هامش الزيارة، واتفاقيات تفاهم أخرى فى مجال العمل، وتسهيل الإجراءات اللوجستية للمستثمر السعودى فى مصر.

■ الحد من تدخلات الدول الإقليمية، خاصة إيران، فى الشؤون الداخلية للدول العربية (كما يحدث فى سوريا والعراق ولبنان واليمن)، ووقف مشروعها الثورى التوسعى، والحد أيضاً من تدخلات تركيا فى الشأن المصرى مثلًا ووقف مشروعها الإخوانى التوسعى.

■ الحد من التدخلات الغربية، وخصوصًا وقف مشروع التقسيم الذى لا يكف الغرب عن التحدث عنه فى كل مناسبة. إن زيارة الملك سلمان لجامعة القاهرة كانت إعطاء رمز ومؤشر لأوباما أن المشروع الذى جاء به فى 2009 لتفكيك المنطقة من خلال ثورات الفوضى انتهى بدخول الملك سلمان لنفس المنبر ليُنهِى هذه الفوضى ببناء جسر يوحّد بين أكبر دولتين عربيتين.

■ الأهم من ذلك كله أن أهداف بناء الجسر فى هذا التوقيت بالذات له دوافعه الأمنية والعسكرية التى تخدم مصلحة البلدين، وبالتالى تفاصيل هذا البند ستكون سرية بين البلدين.

■ لعل هذا الجسر وهذه المشاريع تُصلح رؤية الإعلام المصرى والسعودى لكسر حاجز التصورات النمطية للمواطن السعودى والمصرى. فالصورة النمطية للمواطن المصرى عن السعودية أنها دولة متطرفة دينياً، والمواطن السعودى مجرد رجل صحراوى جاهل عنده مال، وفى المقابل النظرة النمطية لدى السعودى عن مصر أنها دولة استغلالية، وأن المواطن المصرى لا ينظر للسعودى إلا ليبتزه مادياً. للأسف الإعلام غرس هذا المفهوم بشكل أكبر بدلًا من أن يصححه، وعتبى أكثر على الإعلام المصرى بحكم تاريخه الطويل الذى نشر هذه الصورة النمطية منذ عهد الستينيات ولم يدرك أن هذا المجتمع السعودى تغيّر وتعلّم أغلبه فى الخارج، وأصبحت هناك نخبة مثقفة واعية تنبذ التطرف والرجعية وتسعى للحداثة والتطور.

نرجع لموضوع الجزيرتين وما سبّبه من بلبلة فى الوسط المصرى بحيث تم التغافل عن الجوهر الحقيقى للزيارة ولم يعد أحد يتحدث عن المصالح والمنفعة التى ستُدر على البلدين، وأصبحت القضية قضية اغتصاب أرض. حقيقة أن إعلان ملكية الجزيرتين للسعودية أثناء زيارة الملك سلمان كان توقيتاً خاطئاً جداً أضاع الفائدة المرجوة من هذه الاتفاقيات، وأثار الشبهات، وفُسرت العملية كأنها مساومة، وبالتالى لكى تُزال هذه الضبابية الآن يجب سد تلك الفجوة بين الدولة المصرية والرأى العام المصرى. فالدولة تعتمد على وثائق وقوانين تثبت أن مصر لم تكن لها سيادة على هاتين الجزيرتين، بل إدارة فقط، وكل الأوراق الرسمية تثبت ملكية الجزيرتين للسعودية، وفى المقابل الرأى العام يرى أحقيته بهاتين الجزيرتين وأن الدولة لم تتعامل معه بشفافية وفوجئ بالقرار. ولحل هذه الإشكالية بطريقة علمية، على الرئيس السيسى أن يبتعد عن المشهد قليلاً حتى لا يُتهم بالديكتاتورية والانفرادية بالقرارات وتُؤلَّف ضده الأقاويل، ومن ثم يجب على الفور تشكيل لجنة مؤلفة من الجمعية الجغرافية المصرية والجمعية المصرية للدراسات التاريخية والجمعية المصرية القانونية، وتقدم مستنداتها ووثائقها للبرلمان المصرى، والتى تثبت صحة كل ما تم تداوله بشأن الجزيرتين. فهذه الجمعيات والبرلمان هى المسؤولة عن إعطاء القرار الصحيح بخصوص الجزيرتين، وفى حال النزاع، لا سمح الله، يتم التحكيم الدولى. أما تلك الإفتاءات والثرثرة من خلال الإعلام الغوغائى وتعليقات التواصل الاجتماعى فلن تزيد النفوس إلا ضغينة، وتعطى مجالًا للأعداء لاستغلال الحدث لمصالحهم الشخصية. إن ما تمر به منطقتنا المضطربة وأوضاع الدول العربية الحرجة جدًا لا تتحمل ضياع وقت وهراءات تريد أن تُوقع بين أكبر دولتين عربيتين تسعيان لإنقاذ الوطن العربى.

التعليقات