كتاب 11

03:41 مساءً EET

مصر.. و«عودة الروح»

في 24 فبراير 1958 (بعد يومين من إعلان الوحدة بين مصر وسوريا في 22 فبراير)، وبخطاب جماهيري في دمشق وصف الرئيس جمال عبدالناصر دمشق بأنها «قلب العروبة النابض، التي فيها تتفاعل القومية العربية»، فإنّ كان هذا رأي زعيم المد القومي العربي بشأن سوريا، فإننا لا نملك إلا أن نؤكد أن مصر هي «قلب القلب النابض للأمة» وأن الاستهداف الدائم لمصر لهو استهداف لكل الأمة في قلبها، لضرب الأمة في مقتل.
لذلك لم تَسْلَم مصر يومًا من الاستهداف الخارجي لإخضاعها، شعبًا وأرضًا، ليسهل أمر إخضاع بلدان العرب جميعًا… فكان للصليبيين دور، وكان لغزوات نابليون بونابرت دور، وكان لغزوات المستشرقين أدوار في تمهيد طريق المستعمرين الذين اجتاحوا مصر وعموم المنطقة ولم يغادروها منذ أكثر من قرن من الزمان… أما أخطر الأدوار الجهنمية فكان لذلك الاستعمار الذي نجح في زرع بذور الإسلام السياسي الراديكالي في قلب القلب، ونجح في رعايتها على مدار أكثر من قرن لتنمو وتُثمر وتصدّر أفكارًا وتيارات إلى داخل نسيج كل الأمة… تلك البذور التي أنتجت أسوأ موجات العنف والإرهاب، ووحشًا يتغذى من دماء وعقول أبنائنا، وتهديدًا للوجود العربي والإسلامي على حد سواء.
فإن كان سقوط بغداد منذ أغسطس 1990 قد أثبت أن العراق حقًا البوابة الشرقية للأمة، التي يعبر منها الغزاة عندما تضعف أو تسقط حكومتها المركزية العربية، فإنّ أحداث مصر الأخيرة، التي استهدفت نزعها من الجسد العربي إلى محيط غير متسق مع وجودها وكيانها التاريخي والقيادي، قد أثبتت للأمة مرة أخرى بأن مصر حقًا قلب القلب النابض للأمة الذي بموته تفقد الأمة روحها، فيسهل تفتيتها وإنهاء وجودها.
ولأن مصر لم ولن تقبل بخذلان الأمة، فإنها اختارت أن تنتفض بملايينها وتتجاوز كبوتها تلك، وتثبت مرة أخرى، كما أثبتت على مر التاريخ، أن «الأمة العربية تضعف ولكن لا تموت»… واستفاق المارد العربي في عاصمة المعز فاحتضنته الأمة ليقوم بدوره العضيد في مواجهة أخطر المشاريع التي تستهدف العروبة والإسلام معًا.
نعم، نجح المصريون في منع الأيادي الملوثة بكراهية العروبة من سلب الأمة قلبها… وتسارع العرب، المؤمنون بدور القلب في الجسد، للالتفاف حول مصر وإعادتها إلى الصف العربي، شامخة.
ولكن استهداف مصر لم يتوقف، ومازال مستمرًا، بل صارت الحرب أكثر شراسة على مستويات متعددة، بكل القوى الناعمة والمتوحشة، من الإعلام إلى الاقتصاد وصولاً إلى الإرهاب… فلم يعد خافيًا أن السياسات الدولية التي تتفاعل في منطقتنا من أجل مصالح أصحابها تمارس اليوم أدوارًا خبيثة لضرب الاقتصاد المصري في القلب، حيث عملية تدمير الجنيه المصري مستمرة بشكل لافت، وبالأدوات نفسها التي استخدمت لضرب الدينار العراقي في فترة التسعينيات… وحيث الإعلام الغربي يلعب دوره القبيح في تعظيم صورة الإرهاب في مصر بكل وسائل الكذب التكنولوجي لتحقيق هدفين في آن واحد، الأول، لتحويل مصر إلى دولة فاشلة، والثاني، لقتل السياحة التي تعد أحد أهم مصادر الدخل القومي والاقتصاد المصري… وجدير بالذكر هنا ما نقله لي أحد المختصين المصريين شخصيًا منذ عدة أيام مؤكِّدًا أن «الشركات السياحية في الغرب اتخذت قرارها بمنع نجاح السياحة في مصر ضمن المشروع الكلي الذي يستهدفنا».
في مقابل كل هذا لا يمكن أن نتجاهل الدور العظيم الذي تلعبه الإدارة المصرية الجديدة بعملية البناء والمواجهة، في كل مفاصل الحياة والإدارة في البلاد، حيث تستثمر العقول الجديدة، والخبرات القديمة، على كل المستويات، واختارت العمل في صمت، مع تأكيد المسؤولين المصريين، في أحاديثهم وأدائهم اليومي من أعلى قيادة رسمية إلى أصغر قيادة أهلية، ألا وقت أمامهم لمزيد من الأخطاء، وأن عملية البناء تشمل كل القطاعات، الصناعية والزراعية والتعليمية والعسكرية والأمنية والإعلامية والثقافية والبشرية، بكل مفاصلها… وللمرة الأولى منذ عقود طويلة تسترجع مصر كفاءاتها لتتصدر عملية البناء، في الوقت الذي يتم محاسبة المتخاذلين منهم، ممن اختاروا أن يفشلوا التجربة أو يفسدوها أو يضروا بها.
في مصر اليوم قصص نجاح كثيرة، وكبيرة، في تجربة عربية حديثة لإعادة بناء الدولة التي تكالبت عليها القوى، الداخلية والخارجية، منذ أكثر من نصف قرن… لا مجال هنا لذكر تلك القصص أو بعضها، ولكن يكفي العرب أن يثقوا بأن مصر تعيش مرحلة جديدة ليمدوا جميعًا، دولاً ومنظمات وأفراد، أيديهم للمساعدة في إفشال الهجمة الشرسة ضدها، ومنع النزيف الاقتصادي والإعلامي الذي يستهدفها.
ولا يمكن أن ننهي هذه الكلمات، التي حاولت عدم الدخول بها في التفاصيل بقدر المستطاع، من دون الإشادة بكل احترام وتقدير بالدور السعودي والإماراتي والبحريني في دعم مصر، في أهم فترة يحتاج فيها المصريون إلى هذا الموقف العربي المخلص والكريم.
فعودة مصر إلى دورها الإقليمي والدولي المعهود هي بمثابة «عودة الروح» إلى الأمة.

التعليقات