كتاب 11

01:51 مساءً EET

كنت في الطائرة المنكوبة

كم مرّة استخدمت، في حياتي الصحافية، صفة «الطائرة المنكوبة»؟ لم أكن أحبّها. وكنت أتحايل وألتَفّ عليها بغيرها: الطائرة التي سقطت في البحر، أو التي اختفت من شاشة الرادار، أو الحالي البحث عنها، أو التي تحطمت على فندق صغير في ضواحي باريس بعد دقائق من إقلاعها، مثلما حصل وأنا أغطّي حادث سقوط «الكونكورد»، عام 2000. إن مفردة النكبة تخاطب ذكرى سيئة في قاموسنا السياسي العربي. ومع هذا، أجد هذه الصفة تفرض نفسها على عبارتي، وأنا أكتب عن الطائرة المصرية التي تعرضت لحادث مؤلم قبل أيام. إنها نكبة على السياحة المصرية، وعلى أرزاق المصريين، وعلى كل ما تعنيه مصر لنا كعرب.
عدت من القاهرة مساء الأربعاء على متن رحلة مصر للطيران رقم 803 ووصلنا باريس، بالسلامة، بحدود العاشرة ليلاً، مع تأخير طفيف. ونمت متأخرة واستيقظت مبكّرة صباح الخميس على خبر فقدان الطائرة نفسها وهي في رحلة عودتها إلى القاهرة رقم 804. ثم بدأ الهاتف يرنّ. ابني وابنتي يريدان الاطمئنان رغم علمهما بأنني كنت آتية من مصر، تلك الليلة، لا ذاهبة إليها.
طوال النهار، لم تفارقني وجوه طاقم المضيفين والمضيفات، خصوصًا تلك التي كانت ترحّب بالمسافرين باللغة الإنجليزية من مكبُر الصوت. وقد مازحتها فيما بعد، وتحدثنا وضحكنا طويلاً. ماذا حدث بعد ذلك؟ هل واصلت عملها الدؤوب وساهمت في تهيئة الطائرة لاستقبال وجبة جديدة من المسافرين ورحّبت بهم بالطريقة ذاتها ثم سحبها القدر، مع ابتسامتها الحلوة، إلى أعماق البحر؟ نسمع من خبراء الطيران أن الفترة المقررة لتوقّف هذا النوع من الطائرات وتهيئتها لرحلة جديدة يجب ألا تتجاوز الساعة ونصف الساعة، لكي يكون الخط الملاحي مربحًا ويغطي تكاليفه.
لازمت التلفزيون في اليومين التاليين وسمعت معلقين فرنسيين يشيدون بكفاءة الطيار المصري وبسمعة الشركة. وهناك من أشار إلى قصور في إجراءات السلامة المتبعة في المطارات المصرية. يقولون هذا رغم أن الطائرة أقلعت من مطار شارل ديغول، أهم مطارات فرنسا، وعليه تقع مسؤولية الأمن. ووددت لو أدخل على الخط لأقول إنني لم أعرف إجراءات أكثر تشددًا من تلك التي وجدتها في مطار القاهرة، هذه المرّة. إن عملي يتيح لي السفر الكثير، شرقًا وغربًا، بحيث أستطيع أن أؤلف دليلاً حول كيفية التصرف في مطارات العالم، والمحاذير والتوصيات المفيدة للمسافر، وحجم الحقائب التي يحملها، والأحذية التي يُفضّل ارتداؤها خلال الرحلة.
طلب موظفو الأمن في مطار القاهرة من السيدات خلع نعالهن المفتوحة والمسطحة، رغم أنها مكشوفة لا تخفي الأقدام. وهو إجراء تتغاضى عنه مطارات أوروبية وأميركية، وتكتفي بتمرير الأحذية المغلقة على حزام الفحص بالأشعة. كما طلبوا خلع سترات المسافرين من الجنسين، وهو طلب يجري العمل به منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) المشؤوم. ومن كانت تتحرج من خلع معطفها «الشرعي» أو سترتها لتمريرها على جهاز الفحص فإن هناك موظفة تتولى تفتيشها في غرفة جانبية. وبعد أن مرّت الحقائب كلها والمعاطف والأحذية على الجهاز عند مدخل المطار، فإن التفتيش الضوئي تكرر قبل ركوب الطائرة. ولم يكتفِ موظف الأمن بذلك، بل طلب فتح الحقيبة الصغيرة، وتفحّص محتوياتها، ودقّق المشتريات التي قمت بها من السوق الحرة، وتأكد من تطابق مواصفاتها مع وصل البيع.
دخلت الطائرة مرهقة لكنني أشعر بالأمان. واستمعت إلى المضيفة وهي تلقي، بالصوت والحركة، ما يجب فعله عند حالات الطوارئ. تعليمات سبق وأن استمعت إليها عشرات المرات. لكنني توقفت، هذه المرة، عند تفصيل يخصّ مصباح الإنارة الموجود في سترة النجاة. وهو مصباح صغير موجود على الكتف يُضاء بسحب شريط يتدلى منه. وقيل لنا إن الشريط لا يُسحب إلا حين يكون الراكب وسط أمواج البحر لكي يستدلّ عليه المسعفون. يا ساتر يا رب. وتطلعت إلى السيدة الحامل الجالسة في الصف المجاور ومعها طفلان صغيران. ولم ألمح علامة قلق على وجهها. إنها نعمة الجهل بالآتي، وبأن طائرتنا هذه ذاتها ستغرق بعد ساعات قلائل.
أقول لنفسي إن الحياة والموت دولاب حظ. أقول إنه دعاء الوالدة يسوّرني من الآخرة. أو لعله ذلك الصوت الطيب الذي هتف لي قبل السفر بدقائق وتمنى لي السلامة. رحم الله ضحايا الطائرة ووهب أهاليهم السلوى.

التعليقات