كتاب 11

10:51 صباحًا EET

«بوكيمونات» العرب

تمكنت الأدمغة الخلّاقة من إعادة إحياء كائنات ذبلت وطواها النسيان حتى ظنناها اندثرت، فإذا بالبوكيمونات تنبعث فجأة، كالعفاريت المشاغبة، لتشغل أهل الأرض، وتستجرهم للبحث عنها في الثلاجات وتحت الأسرة، وفي المستشفيات وأماكن العبادة، والساحات والغابات. الألعاب، ليست مجرد وسيلة لتزجية الوقت وإن بدت هكذا، كما أن الأفلام ليست قصصًا مسلية تروى على شاشة، ثم ينصرف المتفرجون إلى حياتهم، وكأنما لا عين رأت، ولا مخيلة سرحت. تعرف الشركات التجارية التكنولوجية من أين تؤكل الكتف، وكيف يستثمر الهوى البشري ويفتن، ليدرّ المليارات.
مبتكرو ألعاب الفيديو الناجحة يضاعفون أرباحهم سنويًا. العام الماضي جنت هذه الشركات 74 مليار دولار بفضل إدمان مستخدميها. السنة الحالية، حققت «بوكيمون غو»، ما لم يكن في حسبان مصنعيها أنفسهم وهي تسجل رقمًا قياسيًا وصل إلى 19 مليار دولار في 13 يومًا، وهي لا تزال في طور التجريب، والبلدان التي أطلقت فيها محدودة، ويستميت الآخرون للحصول عليها، بعد أن فرغ صبرهم. لا تغرنك هوليوود بكل وهجها وإرثها، فقد سبقتها ألعاب الفيديو في نسب الأرباح منذ عام 1997، ولفتت ابتكاراتها المستثمرين من حينه. وما الخلط الساحر بين الواقعي والافتراضي الذي تبنى عليه «بوكيمون غو» سوى مسار تطوري ظهرت أولى ثمراته عام 2003 مع لعبة «بوت فايترز»، وحظي بإعجاب الجمهور مع لعبة أذكى هي «إنغرس» عام 2013، لكنه لم يرق إلى الهوس الحالي. بفضل الجهود الجبارة، والمحاولات المتكررة، كان لا بد للباحثين الذين كرسوا أنفسهم، للاختبار والاقتراب أكثر من سيكولوجيا الإنسان العصري، من بلوغ خلطة «الواقع المعزز» التي تفتن الألباب، وحققت شركتا «نينتاندو» و«نيانتك» ما أرادتا، ولا تزال التجارب في أولها.
«بوكيمون غو» هي من آخر سلالات ألعاب الفيديو وأكثرها إثارة. استفادت بألمعية استثنائية، مما تعلمه المواطن الكوني من معرفة بوسائل التواصل الاجتماعي، وتفاعل مع الأصدقاء وتبادل افتراضي للانفعالات، وكذلك دغدغت حاجة كسالى العصر الملحة إلى المشي والاكتشاف، وحب المطاردة والربح والتحدي وتجميع النقاط، واللهو الفردي كما المشاركة الجماعية، لتقدم للبشرية وجبة دسمة جامعة شهية، لا تقاوم. ظاهرة الهستيريا غير المسبوقة، لا بد ستخضع لمزيد من التحليل العلمي الدقيق؛ إذ يعتقد أنها بتشريح عناصرها، ستفتح أبواب المعرفة على الكثير من أسرار النفس البشرية، ومستوى التدجين الذي مارسته عليها الأجهزة الإلكترونية بأزرارها السحرية وبرامجها وفضاءاتها المفتوحة منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، لتجعلها تطارد البوكيمونات غير آبهة بالمخاطر والمهالك.
فهمت أميركا باكرًا أن طريقتك في اللهو تشكل ثقافتك، وأنك باللعب تكتسب ما لا تستطيعه وأنت جاد ومتجهم، ونشرت بنجاح باهر، آيديولوجيتها الليبرالية وقيمها وأسلوب عيشها بالسينما والمسلسلات والمسرح والموسيقى، ومن ثم عبر «هوليوود» و«ديزني لاند»، واخترقت القلوب والأمزجة دون استئذان. لم تكن ألعاب الفيديو التي تجرعها أطفالنا لعقد ونصف العقد مضيا سوى حامل – غير بريء – لمواقف وعادات ومفاهيم، قد تشبهنا أو تتناقض مع خياراتنا. لم تخضع ألعاب الطفولة الخبيثة لدراسات تذكر، أو لاهتمامات سيكولوجية فعلية، سوى بعض النصائح التي تكرم بها علينا خبراء يطلون تلفزيونيًا، ليخبرونا بأن ساعات الجلوس أمام الشاشات يجب أن تبقى محدودة، ومراقبة الأطفال واجب أسري. أدركت «يونيسكو» باكرًا أن صناعات الترفيه تتجاوز مفاعيلها تمضية الوقت إلى قولبة الروح، وصنفتها جزءًا من أدوات العصر الثقافية المؤثرة.
منذ خمس وعشرين سنة ارتأت الدول الغربية، أن هذه الألعاب بما لها من تأثير متواصل في المواطنين، هي جزء من «التراث الثقافي». تعاملت معها، تمامًا، كما الآثار الرومانية والإغريقية والمؤلفات الأدبية والموسيقية واللوحات التشكيلية. أمر بدا مربكًا في بادئ الأمر، لكن إدراك ما تحفره عميقًا هذه المتع التي تستغرق كثيرًا ساعات طوالاً من نهارهم، شجع وزير الثقافة الفرنسي الأسبق فريديريك ميتران أن ينظم معرضًا لـ«تاريخ اللعب» في «القصر الكبير»، ومن ثم خصص متحفًا وطنيًا ترعاه الدولة، يؤرخ لمسار ألعاب الفيديو، ومخاضاتها، وأنواعها وفروعها فمنها الحربي والمغامراتي، والفانتازي كما تلك التي تعتمد فن الإدارة، أو تتكئ على العلاقات العاطفية أو الاجتماعية، وبينها الاستراتيجية، وما هو مبني على السباق أو إصابة الهدف بالأسلحة الفتاكة.
وبينما لا نزال نستخف بما تعنيه الأوقات المستنزفة في اللعب، والانفعالات المستنفرة، وما تحفره من أخاديد في الروح، افتتحت جامعات غربية فروعًا، لرصد الظواهر، وتحليل الجوانب الاقتصادية والنفسية وحتى الفنية للألعاب الإلكترونية.
اللعبة الواحدة لم تعد ابتكارًا فرديًا، بل هي حصيلة أبحاث عبقرية، يجتمع لها إضافة إلى من يضعون تصورًا للفكرة، مطورون، ومتخصصون في الموسيقى، كتّاب السيناريو، المؤثرات الصوتية، البرمجة، الغرافيك، التصميم والإخراج، عدا المجربين الذين يقع على عاتقهم التأكد من أن ما يتم تنفيذه يمنح المستخدم الرضى ويشجعه على المزيد.
عالم ابتكاري ضخم بأبعاد شتى، التعامل معه بالتحريم والتحذير أو التحميس، لا يدرأ خطرًا. مجال تجتمع له عشرات الاختصاصات، وترصد لتطويره مليارات الدولارات، ويأتي بأرباح تتجاوز بأشواط صناعة السيارات وربما الطائرات، ولمنتجاته ملايين العشاق والمتيمين، ويسرق من أوقات كل مستخدم مئات الساعات، لا يكفي للتعاطي معه، مقالة في جريدة أو خبر عابر في تلفزيون وبعض تنبيهات السيكولوجيين، أدامهم الله ورعاهم. إدمان اللعب مرض ينال من الكبار كما الصغار. الغواية التي تتم ممارستها بفنية عالية، تستهدف الإنسان بصرف النظر عن عمره وجنسيته ولون بشرته. التعاطي مع منتجات تزداد ذكاء وإغراء لا يكون بالمنع والغضب وسرد المخاطر، وإنما بمزيد من المعرفة الدقيقة والتشريح العلمي الفطن. «بوكيمون غو» تدعوك للانطلاق، وأنت تجري سعيدًا طائعًا، خلف وحوشها دون أن تسأل، إلى أين؟ أوليست الحياة مجرد لعبة؟

التعليقات