كتاب 11

10:15 صباحًا EET

تخبطات أمريكية = مكاسب روسية

لم يحدث منذ نهاية الحرب العالمية الثانية مرورا بالحرب الباردة الى تسيد امريكا الكامل للعالم ان كسبت روسيا كل هذه التحالفات والنفوذ الدولي مقابل خسارة امريكا لتحالفات استراتيجية مثل ما يحدث في عهد إدارة اوباما. والغريب ان هذا يحدث بسبب الأخطاء والتخبطات المتواصلة لهذه الإدارة الامريكية وليس بسبب وجود مشروع روسي مقنع تكسب روسيا تحالفات جديدة من خلاله.

فَلَو نظرنا للتطورات الاخيرة في السياسة الخارجية لتركيا مؤخراً نستطيع ان ندرك حجم الخسائر الامريكية مقابل المكاسب الروسية. فزيارة الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الاخيرة الى روسيا ولقاءه بالرئيس الروسي بوتن وما أعلن من تقارب وتعاون ليس فقط في الشأن الاقتصادي انما وصل الى الشأن العسكري والى حد الإعلان عن احتمال القيام بعمليات عسكرية مشتركة في سوريا رامياً خلفه خلافهم الكبير الذي وصل الى حد إسقاط تركيا لطائرة مقاتلة روسية وما تطلب ذلك من اعتذار وعرض تركيا دفع تعويضات لروسيا!

وفي نفس الاسبوع زار وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف انقرة واجتمع مع نظيره التركي مولود جاويش اوغلو وكذلك بالرئيس التركي اردوغان وضعت فيه تركيا كل خلافاتها مع طهران جانباً واعلنت عن تقارب وتعاون اكبر بين البلدين حتى في الملف السوري الذي كان من اكبر نقاط الخلاف بين البلدين!

ولكي توضح الصورة اكثر فنحن نتحدث عن تركيا وهي عضو مهم في حلف الناتو واحد اهم حلفاء امريكا في الشرق الأوسط تتحالف مع روسيا وإيران وترسل رسائل تطمينية للنظام السوري! وكل ذلك يعد جزء من ما أثمرت به السياسة الامريكية في المنطقة. فروسيا اليوم تجني ثمار هذا التخبط الامريكي الذي استهان بكل ما عملت الإدارات الامريكية السابقة من اجله وكل المكاسب التي حققتها الإدارات السابقة وأهمها بناء تحالفات استراتيجية عميقة كان من الصعب التأثير عليها سلباً لولا سياسة اوباما الكارثية.

فعملية بناء الثقة تأخذ سنوات طويلة ومواقف واضحة وجدية بعكس عملية هدم الثقة التي إجادتها إدارة اوباما فلم نعد نرى اي اثر إيجابي يذكر للمواقف او التصريحات الرسمية للمسؤولين الأمريكان بعد ان اعتدنا ان تصريح اي مسؤول أمريكي هو بمثابة موقف ثابت بالإمكان الاعتماد عليه. والأمثلة كثيرة جداً وبإمكان المهتم ان ينظر الى التصريحات الامريكية اثناء وبعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا ليرى حجم التخبط وكذلك هي تصريحاتهم في الشأن البحريني و السعودي والمصري وغيرهم. فمصر لم تعد تثق بالسياسة الامريكية وأعلنتها اكثر من مرة واخرها بيان صدر عن أعضاء من مجلس النواب المصري في مارس 2016 واصفاً تصريحات وزير الخارجية الامريكي جون كيري ضد مصر بالتدخل السافر في الشأن الداخلي المصري ودفعها ذلك للتقارب اكثر مع روسيا مثل ما تفعل تركيا الان.

وافضل تاكيد على تدني مستوى العلاقة بين امريكا وحلفائها هو النظر الى الوقائع وما يحدث على ارض الواقع فهذا أفضل من الأخذ بالتصريحات المتضاربة والغير واقعية في كثير من الأحيان ولكن حتى لو نظرنا الى هذه التصريحات فهي دليل اخر على مانقول فمثلا تصريح الأسطول الامريكي الخامس المنشور على موقع (العربية.نت) ان تقليل عدد المستشارين الأمريكان لدى  التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن هو نتيجة تراجع اعتماد السعودية عليهم وان خفض العدد لا يؤثر على دعم التحالف ولكن هذا من اجل إدارة الموارد البشرية بشكل أفضل.

اما على ارض الواقع فعمليات عاصفة الحزم تمت من غير التنسيق المسبق مع امريكا وكذلك مستوى تمثيل قادة دول مجلس التعاون في قمة كامب ديفيد الاخيرة في مايو 2015 وغيرها الكثير من المواقف التي تؤكد هذه الحقيقة.

ولكن الأهم من هذا كله هو ان اي فراغ يجب ان يملأ، والفراغ الذي تتركه امريكا في منطقة الشرق الأوسط تملؤه روسيا وهذا امر واقع لا علاقة له بالتنظير الامريكي الحاصل في المراكز الفكرية الغربية مثل مؤسسة راند ولا بالهذيان الذي نسمعه عندما يبرر المسؤولين الأمريكان سياسة اوباما الخارجية ولا عملية تجميل الصورة واظهار الخسائر على انها مكاسب ونجاح غير مسبوق. فروسيا تسيطر على المشهد السوري وهي من تملك التأثير على الأحداث وهي من يؤخذ تصريحات مسؤوليها بجدية وهي من فتحت لها ايران أراضيها لاستخدامها عسكريا (وهذا حدث خطير يهدد مصالح امريكا وريادتها للعالم لم يحدث له نظير منذ انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي) وهي من ركضت لها تركيا وتحالفت معها ضاربة بعرض الحائط حلفائها في حلف الناتو وعلى رأسهم امريكا وهي من تحتل أراضي كبيرة في جورجيا وفي أوكرانيا وتكسب حلفاء جدد كل يوم.

وبالمقابل تخسر امريكا كل يوم ثقة حلفائها التاريخيين والأساسيين وتخسر تحالفات عملت الإدارات الامريكية السابقة كثيرا على بنائها وكسبها وتعزيزها لخدمة وحماية مصالحها. وهي من تخسر التأثير بالمشهد السياسي والعسكري في الشرق الأوسط ولن نستغرب لو سمعنا عن قيام تحالف جديد يضم روسيا والصين -ذكرت قناة Fox News الامريكية ان الصين بدأت بالفعل بإعداد اول قاعدة عسكرية لها خارج حدودها وتبعد مسافة كيلومترات معدودة عن القاعدة الامريكية هناك- وإيران وربما تركيا وإسرائيل وغيرهم واغلب هذه الدول بدأت بالفعل في إعداد وتأهيل قواعد عسكرية خارجية اما في مناطق عرفت انها ذات نفوذ أمريكي او على مقربة من مناطق المصالح الامريكية و سيكون لدى هذا التحالف قواعد عسكرية وبوارج حربية في المياه الإقليمية والدولية وثقل اقتصادي وتأثير سياسي من الصعب جدا على واشنطن التغلب عليه والتقليل من قوته وعندها ستصبح امريكا في موقف روسيا بعد انتهاء الحرب الباردة ولن أتطرق هنا لمشاكل امريكا وتحدياتها الداخلية على الرغم من أهميتها سواء على الصعيد الاقتصادي او السياسي ولكن كل ما أقوله هو ان على الولايات المتحدة الامريكية ان تعيد النظر بشكل سريع وجدي في سياساتها الخارجية وان تعمل على اعادة بناء الثقة وكسب الحلفاء ومراعاة مصالحهم مثل ما تراعي مصالحها وإلا سيكون من الصعب اعادة العجلة الى الوراء وقيادتها للعالم ستكون شي من الماضي.

اما كيف تنظر امريكا لكل هذه الفوضى التي تحدث بسبب سياساتها الخارجية فيكفي ان نقرأ ما صرح به نائب وزير الدفاع الامريكي روبرت وورك في لقاء صحفي مع ديفيد إغناتيوس وأعاد طرحه مؤخراً في مؤتمر ل”Aspen Strategy Group” ان على امريكا ان تواجه التغول الروسي والصيني عن طريق التفوق التكنولوجي تحت استراتيجية اسماها المعادل الثالث “Third Factor Strategy” لكي تزيد من تعقيد خطط الهجوم ضدها. فنائب وزير الدفاع الامريكي ومن خلال طرحه هذا اثبت ان امريكا حاليا لا تعي حجم التطورات التي تحدث على ارض الواقع وأنها تعيش في زمن النظريات والفرضيات التي تطرحها المراكز الفكرية وتدفع بها جماعات الضغط والأكاديميين -وكثير منهم الان يعملون في مناصب رئيسية في إدارة اوباما- وان هذه الإدارة لا تنظر الى الواقع وتأثيراته انما على ما تقوله هذه الدراسات ويتكلم عنه الأكاديميون.

ولم استغرب من طرح نائب وزير الدفاع الامريكي فقد صدرت دراسة حديثه لمؤسسة راند تتكلم فيها عن الخطر الصيني وعودة احتمالية الحرب ضدها بعنوان “الحرب مع الصين: إعادة التفكير في المستحيل” تتطرق الدراسة الى تنامي القدرات العسكرية الصينية وان على امريكا ان تجد ما يعيد لها تفوقها العسكري الحاسم.

تصدر هذه الدراسات من مراكز لها ثقلها وتأثيرها على السياسة الامريكية وتصدر تصريحات وتطرح استراتيجيات من مسؤولين امريكان بعيدة كل البعد عن نتائج ما يحدث فعليا فها هي روسيا تملاء الفراغ الامريكي وتبني تحالفات أقوى وأسرع من قدرة امريكا على الحفاظ على حلفائها التاريخين فإن كانت امريكا جادة في استمرارها كقوة عظمى تقود العالم فعليها ان تعيد النظر في مصادر صناعة القرار ومصادر معلوماتها وفي سياستها الخارجية بشكل جذري وحالاً مثل ما ذكرنا سابقا.

بسام البنمحمد
عضو مجلس الشورى والرئيس التنفيذي لمركز دان للدراسات والابحاث الاستراتيجية

التعليقات