كتاب 11

03:06 مساءً EET

المملكة العربية السعودية و أمريكا وجهاً لوجه في جاستا

المقدمة:
صوت مجلس الشيوخ الأمريكي في شهر مايو 2016م أي قبل أربعة أشهر وتبعه مجلس النواب الأمريكي  في 9 سبتمبر2016م  بشكل ساحق ليس له مثيل على قانون  يرفع الحصانة الدبلوماسية عن الحكومة السعودية ويسمح  للرعايا الأمريكيين رفع قضايا تعويض مالي من الحكومة السعودية متهمين إياها بدعم الإرهابيين الذين قاموا بالهجوم على الولايات المتحدة في 11 سبتمبر عام 2001م. القانون يلغي الحصانة السياسية المقرة بالعرف والقانون الدولي للحكومات الأجنبية والتي تحمي الدول من المثول أمام المحاكم الأمريكية. رفع مشروع القانون إلى الرئيس الأمريكي أوباما لاقراره أو رفضه حسب الدستورالأمريكي فقام الرئيس بالاعتراض على القانون ( فيتو ) وفي هذه الحالة يعود مشروع القانون إلى مجلس الشيوخ ومجلس النواب، فإن أرادا ممثلو الشعب في المجلسين وقف فيتو الرئيس أي اعتراضه على مشروع القانون فيلزم في هذه الحالة أن يصوت ضد اعتراض الرئيس ثلثا الأعضاء في المجلسين. وفي يوم الأربعاء 28 سبتمبر 2016م صوت أعضاء مجلس الشيوخ ومجلس النواب بأغلبية كبيرة تتعدى الثلثين ضد اعتراض الرئيس فأصبح ( جاستا) قانونا أمريكاً ملزماً للمحاكم بقبول القضايا التي يقدمها المواطنون الأمريكيون ضد الحكومة السعودية. يختصر اسم القانون بكلمة ( جاستا  JASTA) وهي اختصار للاسم الكامل  Justice Against Sponsors of Terrorism .
مشهد تشريعي أمريكي درامي تابعه العالم وبين بشكل واضح كيف ينظر السياسيون الأمريكيون ممثلو الشعب ومن بيدهم القرار النهائي  بشكل سلبى بل عدائي إلى المملكة العربية السعودية .

كيف نتعامل مع القانون الأمريكي ( جاستا ):
هناك عدة أمور جوهرية وأساسية يجب أن تبنى عليها استراتيجية المملكة في التعامل مع الأسباب الكامنة وراء كيف خرج هذا القانون والطريقة التى خرج بها وكذلك تداعيات هذا القانون الآنية والمستقبلية وأثره على أمننا الوطني الاقتصادي والسياسي  .

أولاً- المعالجة الهيكلية والاستراتيجية لطبيعة العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية:

أ. جعل مصلحة الأمن القومي للشعب السعودي  National Security  فوق الجميع وفوق كل اعتبار وتحديد المعالم الرئيسية لمنظومة الأمن القومي ومنها على سبيل المثال الاعتداء على المصالح الاقتصادية والحيوية للمملكة في الخارج . لذا كان من المفروض أن يقال للولايات المتحدة الأمريكية منذ أن بدأ التحرك لاخراج مثل هذا القانون أن المساس بأمن وسلامة الأموال الحكومية المستثمرة في أمريكا تعتبرها المملكة مساسا بالأمن القومي الاقتصادي للشعب السعودي وليس فقط  التهديد بسحب الأموال .

ب.الخروج من تحت مظلة الولايات المتحدة الأمريكية قولاً وفعلاً. وهذا لا يعني معاداة الشعب الأمريكي أو الحكومة الأمريكية، بل على العكس يجب إبقاء وزيادة مجالات التعاون مع المجتمعات المدنية الأمريكية ومنظمات حقوق الإنسان والجامعات ومراكز البحوث. لقد أصبح واضحاً للشعب السعودي وحكومته، رغم أنه من المفروض أن لا يكون غائبا، أن القرار النهائي والحاسم في قضايانا الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية هو في يد الشعب الأمريكي من خلال ممثليه في الكونجرس ومجلس النواب وليس في يد الرئيس الأمريكي. البلاد التي قطعت شوطاً كبيراً في مجال الحرية السياسية والديموقراطية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرها صاحب القرار ليس الرئيس أوالملك، كما هي الحال في دول العالم الثالث ونحن جزء منه، وإنما في يد الشعب المشرع والمقرر.

هل نحن بالفعل تحت مظلة الولايات المتحده الأمريكية؟ يردد كل من مرشحي الرئاسة الأمريكية اليوم، هليري كلينتون ودونالد ترامب، أن على السعودية أن تفعل كذا وكذا بصيغة الأمر ويضيف ترامب إننا حماة السعودية وأنها لا تستطيع البقاء دون حمايتنا وعليها أن تدفع لنا مالاً مقابل هذه الحماية. سألت يوما وأنا في الولايات المتحدة أحد الباحثين في الشؤون السياسية للشرق الأوسط قائلا: هل لك أن تبين لي عناصر الحماية التي تقدمها الولايات المتحدة للسعودية فأنا لا أعلم أن هناك قواعد عسكرية في المملكة؟ فابتسم الرجل وكأنه لم يصدق سؤالي وقال : أمريكا تحمي  المملكة من أي اعتداء خارجي وتحمى الحكومة من أي اعتداء داخلي. فقلت: حتى وإن كان هذا صحيحاً فإنها حماية لا يمكن الاعتماد عليها اليوم فقد تغير الزمن. بالنسبة لحماية أي دولة من الاعتداء الخارجي فهذا يعتمد بشكل أساسي على قدراتها الذاتية البشرية والتدريبة والتقنية وما لديها من أسلحة متطورة، أما فيما يتعلق بحمايتها من الداخل، فلا خير في دولة يحميها الأجنبي، الحماية الحقيقية لأي حكومة ودولة هي شعبها. وأردفت أن الولايات المتحدة الأمريكية مشهورة بتدمير الدول وليس حمايتها، دونك فيتنام وأفغانستان والعراق وغيرها.
المملكة العربية السعودية من وجهة نظري عليها أن تنفض عنها غبار المجاملات السياسية في علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية وأن تجهر بالقول وتتبعه بالثبات  فيما يتعلق بمصالحها الوطنية وأمنها القومي. علينا أن نعلن بكل وضوح وبصوت عال أن المملكة العربية السعودية ليست في حاجة لحماية  الولايات المتحدة أو أي دولة أخرى وأن أمنها وحمايتها تعتمد على قدراتها الذاتية  وعلى ما يربطها مع الدول من تحالفات مشتركة تقوم على الأخذ والعطاء والمصالح المشتركة. كان من المفروض أن يكون هذا الرد المباشر على مرشح الرئاسة الأمريكية السيد ترامب عندما كرر أكثر من مرة قوله  أن السعودية لا يمكنها البقاء بدون حماية أمريكية، لكنه مازال في الوقت بقية. قبل أربعة أعوام عندما كانت لي زاوية أسبوعية في صفحة الرأي بجريدة الشرق السعودية (3 سبتمبر 2012م) كتبت مقالا بعنوان “طبيعة العلاقة بين المملكة والولايات المتحدة الامريكية ) لمن يرغب الاطلاع. (http://www.alsharq.net.sa/2012/09/03/468587)

ج. الولايات المتحدة تأخذ ما تقوم به السعودية لصالح أمريكا على أنه أمر مفروغ منه  ومتوقع وهذا ما يجب أن يصحح وهذا لن يتم إلا إذا كانت الحكومة السعودية غير محتاجة لحماية أمريكية داخلية أو خارجية بحكم استقلالها واعتمادها على شعبها والتفافه حولها وهذا لن يتم إلا إذا تحقق للشعب عدالة اجتماعية واحترام لحقوقه وحرياته وشعر أن المال العام ملك للأمة كلها وليس لبعض منها.

ثانياً – التعامل المباشر مع تداعيات قانون جاستا:

أ. التعامل مع القانون بجدية وحذر ودون تأخير
لم تشر الصحافة المحلية ( الرياض و الجزيرة والاقتصادية ) في اليوم الأول  إلى الخبر الذي تناقلته الصحف والتلفزيونات العالمية عن نجاح مجلس الشيوخ ومجلس النواب الإطاحة بفيتو الرئيس الأمريكي وتثبيت قانون جاستا الموجه ضد السعودية ( الأربعاء 28 سبتمبر 2016 م). لا أدري هذا اجتهاد من رؤساء التحرير أو إيعاز من الجهات الحكومية. وفي اليوم التالي بدأت تظهر بعض المقالات التي تقول بأن هناك وقتاً طويلاً ليصبح القانون فاعلاً أو أنه من الصعب إدانة الحكومة السعودية وقد برأتها الحكومة الأمريكية ( “جاستا” لايستطيع إدانة السعودية……وخيارات الرد كثيرة  – الشرق الأوسط الجمعة 30 سبتمبر2016 م).
في نظري يجب الحذر من التراخي في التعامل مع هذا القانون فالقضاء الأمريكي لا يؤمن جانبه خصوصا وأن هناك تعاطف مع المدعي ( المواطنون الأمريكيون الذين لهم ضحايا في واقعة 11 سبتمبر ) وتحامل على المدعي عليه ( الحكومة السعودية ).
المستفيدون من هذا القانون يعملون ليل نهار في كل الاتجاهات السياسية والقانونية ويحلمون ويأملون في الحصول على أموال من أرصدة الحكومة السعودية المالية وممتلكاتها ( أموال الشعب ) في الولايات المتحدة الأمريكية بالملايين والبلايين. إن المتابع للطريقة والأسلوب والسرعة التى طبخ به هذا القانون يدرك أن وراءه جيشاً من العاملين ليل نهار وقد حققوا الآن هدفهم في استصدار قانون أمريكي يتجاوز القانون الدولي ويكسره ويرغم القضاء الأمريكي الذي سبق وأن رفض دعواهم ضد الحكومة السعودية بسبب الحصانة الدبلوماسية على قبول الدعاوى من المواطنين ضد الحكومات الأجنبية والمقصود بها المملكة العربية السعودية الآن. أما وقد حققوا ذلك بنجاح باهر فهم يعملون بشكل جدي على كسب دعوات التعويض بمئات الملايين أو البلايين من أموال المملكة الموجودة في الولايات المتحدة أو في أي مكان في العالم تستطيع المحكمة الوصول إليه. وها هم جاهزون ففي يوم الاثنين القادم 3 اكتوبر 2016م  ستقدم امرأة أول دعوى قضائية في المحاكم ضد السعودية مطالبة بتعويضات مالية. كل شيء لديهم جاهز وأخشى أن لا نكون جاهزين.

ب. الابتعاد عن العقلية الانفعالية والعمل بمنهجية هادئة فعالة متواصلة ومتوازنة تقوم على أساس حماية المصالح الوطنية للشعب السعودي آخذة في الاعتبار إمكانات وقدرات الولايات المتحدة الأمريكية وحاجاتها الاستراتيجية لنا من جهة وإلى قدراتنا وامكاناتنا وحاجتنا الاستراتيجية لأمريكا من جهة أخرى. أتمنى أن تكون الجهات المعنية بإدارة المحافظ الاستثمارية للحكومة السعودية في الولايات المتحدة قد بدأت في تحريك هذه الأموال بشكل تدريجي ومهني وإخراجها من دائرتين خطرتين الأولى من أراضي الولايات المتحدة والثانية من عملة الدولار . فكلا الدائرتين تتحكم بهما الحكومة الأمريكية التي لا تستطيع رفض أوامر المحاكم بالحجز على أموال الحكومة السعودية إن كانت في الولايات المتحدة، أو في رفض عدم السماح  بتحويل أموال الحكومة السعودية  من خلال النظام البنكي العالمي  من أي مكان في العالم إلى مكان آخر ما دامت هذه الأموال بالدولارحيث أن المركز الرئيسي للمقاصة لأي عملية بالدولار هي نيويورك. على سبيل المثال لو أرادت الصين أن تحول بليون دولار للحكومة السعودية مقابل وارداتها من البترول السعودي وكان هناك حكم صادر لصالح عوائل الضحايا الأمريكيين ضد الحكومة السعودية ببليون دولار فإن الحكومة الأمريكية تستطيع القبض على هذا التحويل عندما يصل أمر التحويل من البنك الصيني إلى البنك الأمريكي في نييورك الذي يعمل مراسلا للبنك الصيني . لقد بدأت الصين والسعودية انشاء منصة مصرفية يتم من خلالها للسعودية تسديد وارداتها من الصين بالعملة الصينية وتستطيع الصين دفع وارداتها من السعوديه ومعظمها بترولية بالريال. هذا عمل جيد جداً وعندما ينتشر بين مجموعات كبيرة من الدول سيكون المسمار في نعش اعتماد النظام المالي العالمي على الدولار الأمريكي.

ج .هناك الكثير من الأدوات المالية والاقتصادية التي تستطيع المملكة دراستها واستخدامها لمواجهة المخاطر المالية المترتبة على هذا القانون، مثل عملية تسعير البترول بعملة أوسلة عملات ليس بينها الدولار، حجم انتاج البترول، تجنب الشركات الأمريكية فيما يتعلق بالمشاريع الكبرى ومشاريع التسليح  وكذلك الاشتراط على الدول التي تمنحها السعودية معونات مالية عدم التعامل مع الشركات الأمريكية  لكن يجب دراسة كل أداة من هذه الأدوات النقدية أو المالية أوالاقتصادية وتحديد منافعها وأضرارها قبل استخدامها.

التعليقات