كتاب 11

10:10 صباحًا EET

إبراهيم عيسي و«الري فريشّ » !

سأحاول ألا أكون مملاُ ومكرراً بشأن الحديث عن إبراهيم عيسي .. فلن أقول أنه  صاحب مدرسة حرفية خاصة في العمل الصحفي تجعله " أسطي صحافة " فرز أول .. ولن أؤكد أنه كاتب مقال بدرجة روائي جداً .. بل لن أشير أيضاً إلي أنه يملك كاريزما في تقديم البرامج لا تخطئها العين , إلا لمن يحملون أراءً سلبية مسبقة تجاه الرجل ..

    كل ذلك لن أذكره .. ولكن يكفي فقط أن أؤكد أن عيسي يراه أغلب جيل الشباب الوسطي في صورة المُعلم والمُوجه والأستاذ .. فجيل أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات تحديداً , يحمل للرجل مكانة خاصة يستحقها بكل تأكيد ..   وتعول تلك المكانة إلي تواكب فترات توهج الكاتب الكبير مع مراحل عمرية مبكرة لهذا الجيل .. والتي تشهد عملية التكوين الفكري والوجداني له , حتي أنني أذكر في مرحلة الثانوية العامة أن كنت من التاركين لكتبي الدراسية من أجل جريدة الدستور التي كان عيسي يرأس تحريرها , بالتواكب مع تكوين حركة كفاية وقت وجود جبل من الجليد حائلاً بين الرئيس السابق مبارك ومعارضيه , والذي كان لإبراهيم عيسي دوراً كبيراً في إذابته ..   الواقع أن عيسي عاني كثيراً من أجل ثورة يناير , عاني لغرس قيمها في الجيل الذي قام بها , وعاني من أجل التنفيذ الفعلي والحشد والدفع لفاعلياتها وإنجاحها .. ولكني أعتقد أن الأشد قسوة ومرارة علي الرجل .. كان في المعاناة بعد نجاحها في إسقاط النظام , لإنحرافها وإنجرافها عن الأهداف والقيم التي دعت إليها والتي حارب مسبقاً من أجلها ..  كي لا أطيل في هذا الأمر .. أعتقد أن عيسي في هذه المرحلة العصيبة يقف في مفترق طرق خطير قد يعصف بما تم سرده في السطور المختصرة السابقة .. فالرجل الآن يحمل في عقله ووجدانه أفكاراً سلبية لا حدود لها بشأن جماعة إنتهت إكلينيكياً .. وإن كانت زوابع وفاتها تلوح في الأفق ..     أستشعر في هذا التوقيت أن تخوف عيسي من خطورة تيار الإسلام السياسي مع خيبة أمله الشديدة في القوي التي تسمي نفسها بالثورية , والشخصيات التي تسمي نفسها بالسياسية والتي تمخض عنها جبل يناير .. جعلت الرجل يُجتذب إلي إتجاه آخر من المؤكد أنه يقل خطورة عن تيارات الإسلام السياسي .. ولكنه لا يسهم في الوصول إلي أهداف الثورة التي طالما دعا إليها عيسي ومن وراءه جيل شاب يحلم بمصر مختلفة ..فمخطئ من يعتقد أن المصريين ينقسمون إلي فصيلين ديني ومدني فقط .. بل هم ثلاثة ..الأول : فصيل " ديني " يريدها ثيوقراطية فاشية فاشلة .. الثاني :  فصيل " محافظ " تقليدي يرغب في الديكتاتور عادلاً كان أم لم يكن طالما حفظ الأمن ويؤمن بالوطنية المصرية ..الثالث : فصيل "شاب الفكر" يري أملاً في مصر الحديثة وإن كان ينقصه الخبرات والكفاءات والرؤية المكتملة .. والواقع أن الأخير هو الأقل عدداً والأتعس حظاً .. والذي لن ينصلح حال الوطن إلا بالإلتفاف من حوله !   والمؤكد أن هذا الفصيل لو خسر كاتب بحجم وقيمة عيسي ستكون الخسارة شديدة .. ولكنها ستكون للطرفين !    أظن أن عيسي بحاجة في هذه اللحظات إلي أن يهدأ ليتذكر أن مبادئ يناير لا ينتقص منها الإستغلال القذر للإخوان لها .. ويغمض عينيه لدقائق .. ويفتحها ليجيب علي تلك الأسئلة .._  هل كان طلب السيسي تفويض الشعب لفض الميادين خطوة مدهشة حقاً ؟_ هل يحتاج أداء الواجب في حفظ الأمن تفويضاً شعبياً ؟ أم هو أمر أضعف موقف أداء الواجب ووضعه في موقف الإستفتاء ؟ _ ماذا لو لم تستجب الميادين .. هل كان سيكون إعتصام رابعة وقتها إعتصاماً سلمياً ولا يجب فضه ؟!_ هل مشاركة الشعب من المدنيين في قرارات خاصة باستعمال القوة هي مشاركة إيجابية بالفعل ؟_ هل كان مشهد المواطنين وهم خارجين في إحتفال إنتظاراً لمشاهدة الدماء حتي لو خاصة بمجرم هو مشهد رائع وبديع ؟!_ أليس هناك فارق بين إعدام سفاح عتيّ الإجرام تطبيقاً للقانون .. والإستفتاء الشعبي علي إعدامه ؟!_ أليس هناك فارق بين أن يقرر الطبيب أن يبتر ساق المريض حفاظاً علي باقي أجزاءه .. وبين أن يطلب أفراد عائلته ذلك ؟!_ هل دائماً جموع الشعب علي صواب ؟ _ أليست جموع الشعب هي من وضعت الرئيس السابق مبارك في القفص أمام الكاميرات .. ليجلس المواطنون بسادية أمام التلفاز ليسعدون بإحساس زائف بالكينونة بعد عقود من الإنسحاق ؟_ أليس هذا هو الشعب الذي جعل من ثورة يناير العظيمة .. تار بايت وخناقة علي فلوس ! _ ألم يُضعف هذا التفويض موقف السيسي والأمن .. لوضعه أداء الواجب في محل إستفتاء شعبي بالميادين يختلط به الرؤية الوطنية بالنزعات السادية الإنتقامية !_ هل تتذكر مشهد فض إعتصام اللاجئين السودانيين في ميدان مصطفي محمود في 2003 ؟ .. حين قُتل فيه أكثر من ثلث أعداد المعتصمين تقريباً دون طلقة رصاص واحدة ودون عقيدة حقيقية لدي الأشقاء ؟_ هل تحتمل مصر آلاف القتلي نتيجة فض الإعتصام بالقوة الآن ؟_ وماذا بعد إراقة الدماء بتفويض شعبي .. هل ستصبح مصر زي الفل ؟_ ألن يكون ثأر الأهالي والمتعاطفين مع من قتلوا "وهم كُثُر" مع جيرانهم الذين أعطوا التفويض وليس الأمن ؟ ألا يوجد فارق شاسع بين الأمرين ؟ _ ألم تفقد الجماعة أي قبول شعبي أو مصداقية لديها ؟ ما التخوف إذن من مصالحة حتي لو علي غير مزاج الشعب .. وحتي لو مُقحفة للشعب ذاته !_ ألم ينتهي الإخوان سياسياً تماماً ؟ هل تملك الجماعة الآن غير العنف والدماء وتقديم الضحايا وصناعة المظلومية ؟ فهل الأصوب أن نذهب إلي مالا يملك الإخوان سواه ؟_ وأخيراً .. ألا تشعر سيدي أننا بعيداً عن خطورة الإخوان وإعتصاماتهم .. أصبحنا كغرب القرون الوسطي ! ونحتاج إلي دماء من وقت لآخر كي نسعد بغريزة البقاء التي لم يبق سواها داخل أفئدتنا في زمن الجهالة والوضاعة وتغييب العقول ؟!
   أعتقد أن عيسي بعد الإنجاز التاريخي الذي أسهم فيه بدور قيادي في إزاحة كابوس حكم الجماعة , والذي وضعه في مصاف الرجال أصحاب الأقلام الخالدة , وهو الذي وقف صامداً أمام ديكتاتورية مبارك وحماقة العسكري وفاشية الإخوان ..     الكاتب الكبير بحاجة للإستماع إلي نصيحة من قلب مُحب " ولا أزكي نفسي عمن حوله " لينقذه من براثن هواجسه .. عيسي يحتاج إلي أن يبتعد لبرهة .. يحتاج أن يأخذ الأسرة الصغيرة إلي رحلة قصيرة .. رحلة من الطراز الذي تُغلق فيه الهواتف .. ولا يُستعمل الريموت كنترول سوي للإنتقال بين الأفلام العربية والأجنبية .. ولا تُستخدم الصحف سوي في إفتراش الطاولة لتناول العشاء قبل نوم لا يسبقه تفكير .. رحلة لل " ري فريش " ولا شئ سوي ال" ري فريش" !  إبراهيم عيسي .. الإخوان لا يحتاجونك في هذه المرحلة للإجهاز عليهم , فهم كفيلون بهذا الأمر تماماً .. ومصيرهم إلي التلاشي كمصير طائفة "الأميش" .. فإلقهم وراء ظهرك كأنهم "مفيش" !  ولكن مصر الثورة هي التي تحتاجك في المرحلة الأهم المقبلة .. فأمامها الكثير من التحديات ..
 

التعليقات