كتاب 11

12:27 مساءً EET

المواقف العمانية واضحة لا غموض فيها

قرأت مقال الأستاذ عبد الرحمن الراشد «عُمان بين الخليج وإيران» المنشور في عدد يوم الأربعاء (الماضي) من جريدة «الشرق الأوسط».. وفي الحقيقة شعرت بحجم الالتباس الكبير الذي تعيشه الأمة العربية كتّابا ومثقفين وعامة. التباس يجعل الحقيقة ضائعة كما تبدو الأمة تمامًا، ويجعلها مليئة بالتناقضات وأبعد ما تكون عن كثير من القيم التي استخلصها الإنسان حول القضايا الكبرى.. الحرب والسلم على سبيل المثال لا الحصر.
لست ضد أن يتبنى الأفراد مواقف من أي دولة أو من أي حدث بما في ذلك الموقف من عُمان، فليس على الجميع أن يكونوا في ضفة السياسة العمانية بمطلقها، كما أنه ليس على الجميع أن يكونوا في ضفة السياسة السعودية أو الإيرانية أو السورية أو سياسة أي دولة أخرى إذا رأى أنها لا تتوافق مع أفكاره وطموحاته ومنافعه.. فسياسات الأفراد غالبًا، كما سياسات الدول، تحركها المصالح والتحالفات. على أن الراشد ليس من العامة، فهو مثقف، ومثقف ليبرالي أيضًا، وهو كاتب وصحافي له تاريخه، ولذلك كنت أفترض أن آراءه ستكون مختلفة وأكثر استقلالية وأكثر بعدًا عن التناغم مع أفكار جنرالات الحرب في أي موقع كانوا، فهم لهم تطلعاتهم ولهم سياقاتهم التي نتفهمها في كل زمان ومكان.
ولكن المقال بدا لي متناقضًا كثيرًا، بل غريبًا وصادمًا: متناقضًا لأنه يصف السياسة العمانية بأنها «غامضة» وتعيش في «عزلة» في حين نراه يحللها ويقدم حولها قراءة يحاول إقناع القراء بها «وكيف يقنع الآخرين بشيء غامض؟».. وغريبًا لأنه يضع نتائج لا تتسق أبدًا مع مقدماته وفق سياقات علم المنطق.. أما صادمًا فلأنني ما زلت أقر أن الراشد مثقف محسوب على الليبراليين وهذا لا يتسق مع استغرابه اعتزال عُمان الحروب ونأيها بنفسها عن الخلافات التي تعصف بالأمة وتوردها موارد الردى.
وليست هذه المرة الأولى التي يحلل فيها الراشد السياسة العمانية فلا تبدو غامضة عليه.. فقبل سنتين تقريبًا كتب مقالاً في «الشرق الأوسط» أيضًا حمل عنوان «عُمان.. وجهة نظر مختلفة» بدا فيه عارفًا بالسياسة العمانية حتى إنه قال بالحرف الواحد: «سلطنة عمان عرفت بأنها أكثر الأعضاء انسجامًا، بل أكثرهم مثالية من حيث العلاقة المستمرة مع الجميع، تقريبًا».. وأضاف: «لا يوجد للإيرانيين نشاط في عمان، وليست على رأس الدول التي تبادلها التجارة» قبل أن يعود ويعتبر أن «مسقط أقرب للنظام الإيراني منها إلى شقيقاتها الخليجية» في مقاله الأخير.
لا يمكن الحديث عن «عزلة» السياسة العمانية، فهذا المصطلح يعني أنها بلا موقف، وهذا يبدو غير دقيق، كما أنه يناقض ما جاء في المقال الأخير «تبدو مسقط أقرب للنظام الإيراني منها إلى شقيقاتها الخليجية». والفكرتان: (العزلة والقرب من النظام الإيراني) لا تلبثان أن تسقطا أمام حقيقة الأدلة العملية والتاريخية. فعُمان بقيت على الدوام في صف القضايا العربية، وليس هذا في العصر الحديث فقط وإنما يمكن أن يستقرئه من يريد أن يعرف السياسة العمانية طوال القرون الماضية، رغم ذلك فإن تلك المواقف لم تجعل عُمان تتورط في الانغماس في دعم الحروب وإنما كانت تبحث عن مخارج وآليات لوقفها. يمكن أن تتذكر هنا موقف عُمان من الحرب العراقية الإيرانية. فرغم أن السياسة العمانية أبقت علاقاتها مع إيران الثورة الإسلامية كما كانت أيام إيران الشاه إلا أنها لم تتخلَ عن العراق عندما جاء يطلب دعمها في بداية حربه مع إيران بعد أن أُحيط بالجيش العراقي في الفاو، وكان الدعم المطلوب عبارة عن إقناع الرئيس أنور السادات ليبيع أسلحته السوفياتية للعراق، وهو ما حدث فعلا وغيّر مسار الحرب.. ولا بد من تذكر موقف صدام حسين من السادات بعد توقيعه اتفاق السلام مع إسرائيل قبل هذه الحادثة بأقل من عامين، ولا بد أيضًا من تذكر موقفه (أي صدام حسين) من عُمان التي رفضت مقاطعة مصر وماذا كان يقول عنها في ذلك الوقت ويتوعدها في إذاعة صوت بغداد.
لا يمكن إذن وصف السياسة العمانية اليوم بسياسة «العزلة»، وهي التي تستطيع جمع الغرب وإيران على قول واحد، وتمنع أبشع حرب كان يمكن أن تشتعل على ضفاف الخليج ولن تفرق نيرانها بين طائفة وأخرى وبين مذهب وآخر. لا يمكن الحديث عن عزلة وعُمان تفعل كل ما بوسعها من أجل التوفيق بين أطراف النزاع في اليمن مع بقاء اعترافها بالشرعية ولكن أيضًا أن الحوثيين ضمن النسيج اليمني لا خارجه.
فإذا كان كذلك فنعم. نعم السياسة العمانية مستقلة واستقلالها لا يخلو من براغماتية وليس في ذلك ما يمنع. لكن استقلاليتها لم تأتِ من فراغ، فهي كيان سياسي عريق جرب طوال قرون طويلة كل الخيارات: خيارات الحرب والغزو والاحتلال والمقاومة والحروب الأهلية والقبلية، جربت أن تكون دولة قبلية وجربت أن تكون إمبراطورية تمتد أراضيها ومدنها من شواطئ الخليج إلى شواطئ شرق أفريقيا، جربت أن تكون في الزاوية وجربت أن تكون في العمق.. وكل تلك التجارب صنعت السياسة التي تُقرأ عُمان من خلالها اليوم.. وهذه الدولة بلورت سياستها بنفسها من خلال تلك التجارب ومن خلال مسيرتها الحضارية التي أوصلتها إلى فكرة أن الحرب ليست إلا دمارًا وخرابًا ولا يمكن في ظلها أن تقوم تنمية أبدًا، وإنك إذا استطعت تجنبها فتجنبها ولو في منتصفها.. ولذلك فإن «حياد» عُمان ليس من قرار جيرانها الإيرانيين والخليجيين كما جاء في المقال، وإنما هو خيار نابع من قناعاتها ومبادئها. على أن فكرة الحياد هنا لا تستقيم أيضًا. فالحياد يعني أن ليس لك موقف.. وعُمان لها مواقفها الداعمة للعروبة ولمجلس التعاون ولكن أيضًا الداعمة للسلام والوئام ومحاولة جمع مختلف الأطراف على طاولة الحوار بغض النظر عمن هي الأطراف.. وهذا موقف في حد ذاته.
أما قضية العلاقات العمانية الإيرانية / الفارسية التي كثر الحديث عنها في المنابر السياسية والإعلامية الخليجية حتى أنها صارت تهمة ومسبة، ففيها تفصيل طويل ليس هنا مكانه، لكن ليس أبسط من القول إن ما يطرح يفتقد إلى عامل مهم جدًا في قراءة تلك العلاقة.. يفتقد إلى قراءة عامل التاريخ، ويفتقد إلى قراءة العامل الجيوسياسي.. فعُمان لم تختر أن تكون إيران جارتها، ولكنها اختارت آلية التعامل معها، اختارت كيف تبني معها علاقة تبادل مصالح كما هو الحال مع بقية دول الخليج العربي، رغم أن تلك العلاقة لم تكن في يوم من الأيام على حساب علاقتها بأشقائها في الخليج والعرب، بل كان تجنب الحرب بين الغرب وإيران ينصب في المقام الأول لصالح الخليج ومصالحه الاقتصادية.
أما العامل التاريخي فيجب قراءة التاريخ جيدًا لمعرفة أن مؤسس أسرة البوسعيد، التي تحكم عمان اليوم، وهو الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي (1744 – 1783) إنما وصل إلى سدة الحكم إثر حربه الضروس ضد الفرس وطردهم من عُمان ومنطقة الخليج، وهي حروب لم تتوقف بعد ذلك حتى أن أعلام البوسعيد رفرفت فوق موانئ البرّ الفارسي. على أن تاريخ المعارك والحروب والتحالفات أيضًا كان موجودًا بين عمان والفرس منذ ما قبل الإسلام ولا تكاد تكون دولة إلا ودخلت حربًا معهم. لكن اليوم وقد احتكمت الدول إلى القوانين وإلى المعاهدات الدولية وقرأت عُمان نتائج الحروب فإنها قررت أن تمسك بخيار السلام والدعوة إليه والتوسط بين خصومه، باعتباره خيارًا استراتيجيًا يبعدها، قدر الإمكان، عن تلك النتائج الكارثية التي نراها اليوم في العراق وسوريا واليمن وليبيا. صحيح أن ذلك وحده لا يعطيك السلام، ولكن ليس أقل من المحاولة.
وهناك عبارات كثيرة في المقال تحتاج إلى وقفات لأنها تطرح الكثير من علامات الاستفهام منها: «عمان محظوظة بانتمائها لمجلس التعاون المكون من أنظمة مسالمة تشاركهم حدودها البرية»، فهل تعني هذه المقولة أنه لو لم تكن الدول التي تربط عُمان بحدود برية دولاً مسالمة لما نجحت عمان في الحفاظ على أمنها؟ هذا طرح غريب، ولا أريد أن أبحث في دلالاته وما تحمله العبارة من ظلال قاتمة. ومنها أيضًا مقولة «اليمن أصبح ساحة للإيرانيين بعد مفاوضات مسقط» وكأن من غير المعروف أن ابتعاد الخليجيين عن اليمن لعقود طويلة هو الذي خلف فراغًا كبيرًا لم يملأه إلا الفقر وإيران وتعيش المنطقة نتائجه اليوم.
يستطيع الذين يريدون فعلاً قراءة السياسة العمانية أن يقرأوها.. يقرأوها من المواقف العمانية الواضحة التي لا غموض فيها ولا لبس.. لكن لا بد أن يكون السياق التاريخي حاضرًا في تلك القراءة حتى تتضح الصورة أكثر. لكن أيضًا لا بد أن تكون تلك القراءة مستقلة ولا تأتي بهدف إثبات أحكام مسبقة والبناء عليها.
وإذا كان الأستاذ عبد الرحمن الراشد قد افتتح مقاله بالحديث عن حوار يوسف بن علوي فإنني أختم مقالي باستشهاد من الحوار نفسه «سيأتي يوم تفتح فيه الأوراق» وتعرف حقيقة كل ما يدور في العالم العربي.

التعليقات